امبراطورية محمد علي ونهضة مصر الحديثة
دائما يحظى الجيش المصرى على مر الأزمان والعصور بمكانة عظيمة واحترام شعبى ودولى كبيرين لتاريخه العريق ودوره الوطنى داخليا واقليميا بل وعالميا.
فعلى مدار التاريخ المصرى لم يكن الجيش مجرد أداة للحروب بل كانت المؤسسة العسكرية نواة للتنمية الشاملة وقاطرة التحديث بالمجتمع والبوتقة التى تنصهر بها كل الخلافات الفكرية والدينية والجغرافية محققا الاندماج الوطنى واليد المصرية القوية المتحدة التى حوت امتدادات اقليمية وقومية وعربية.
وقد لعب الجيش دورا لا يمكن تجاهله على مر التاريخ لتطهير الوطن من خونة الشعب سياسيا أو اجتماعيا وكان حريصا على خدمة الشعب والأمة وليس الحكومة السلطوية أو الفساد والطغيان بل كان دوما وسيلة وطنية للتخلص من جرائمهم. ومن هنا عرف محمد علي باشا كيف يستخدم هذه المعجزة التي منحها الله للجيش وللشعب المصري علي حدا سواء.
اليوم سوف نلتقي معا في كيف تملك محمد علي من الحكم في مصر واستطاع القضاء علي كل من قابله ووقف في طريقة حتي يتمكن من الحكم بمفردة......
كان انتصار محمد علي علي الإنجليز سببا في رضــــــــاء الباب العالي علي محمد علي، مما زاد من سلطانه في مصــــــــــر.
رأي محمد علي ضــــرورة أن ينفــــرد بالحكم دون وصاية شعبية، و أخذ يترقب الوقت للتخلص من السيد عمـــــــر مكرم. و لقد ساعده علي ذلك الانقســــامات في الزعامة الشعبية، فقد أخذ منافسو عمـــــــر مكرم يدســــون له عند محمد علي الذي عمل بدوره علي زيادة الانقسامـــــــات بين الزعامات الشعبية.
و حانت الفرصة لمحمد علي عندما انخفض منسوب النيل في أغسطس 1808 م. فساءت الأحوال و ارتفعت الأسعار و زادت الحكومة الضرائب فأحتج الناس لدي العلماء، و طالب العلماء بدورهم محمد علي بتخفيف الأزمة عن طـــــريق عدم تحصيل الضرائب المقــــــــررة ، فنهرهم محمد علي.
و اتخذ محمد علي عدة قـــــرارات تتعلق بالضــــرائب و الملكية تحقق له أغراض السيطـــــــرة و الانفـــــــــــراد بالحكم وهذه القرارات هي:
- فرض ضريبة المال الميري علي الأراضي الموقوفة للملتزمين و أطيان الأوسية.
- الاستيلاء علي الأطيان التي لا يثبت أصحابها حجج ملكيتها.
- إلزام الملتزمين بتقديم نصف فائض الإلتزام و نصف صافي إيراد الأطيان
- فرض ضريبة تمغة علي المنســـــــــوجات و الأواني و المصوغات
و كان لابد من موافقة السيد عمـــــر مكرم علي هذه القـــــــرارات حتي تصبح نافذة وفقا لشـــــروط التولية. و لكــــن عمــــــر مكرم رفض التباحث مع محمد علي. و انتهــــــزت العناصر المنافسة لعمــــــر مكرم الفرصة و أخذت توغر صدر محمد علي علي عمــــــر مكرم و تفهمه أن عمر مكرم مجــرد فرد عادي يمكن استبداله. فأقدم محمد علي علي خلع عمــــر مكرم من نقابة الأشـــــــــــــراف و ارساله إلي دمياط سنة 1809 و تولية محمد السادات مكانه. و أصبح السادات أداة طيعة في يد محمد علي.......
بعد خلع عمــــر مكرم من زعامته الشعبية لم يبقي لمحمد علي ســـــــوي المماليك لينفـــــــرد بحكم مصـــــــر. و كان محمد علي قد أغــــــري المماليك بترك الصعيد و الإقامة في مصــــــــر حتي يكونوا تحت سمعه و بصـــــره.
و عندما أرسل السلطان العثماني إلي محمد علي ليجهـــــز جيشا يرسله إلي الجحاز للقضاء علي الحـــــركة الوهابية التي انتشــــــرت في الحجاز و اجتاحت مكة و المدينة، خشي محمد علي أن ينتهــــز المماليك فرصة خروج الجيش إلي الحجاز و يهاجمــــــوه ، كما أنه علم من جواسيسه أن المماليك يأتمــــــــرون لاغتياله.و علي هذا الأساس دبــــــــر محمد علي أمـــــــر التخلص منهم نهائيا، إذ دعاهم إلي الاحتفال بالقلعة بمناسبة خـــروج الجيش المصـــري بقيادة ابنه طوسون إلي الحجــــاز. و كان عدد المماليك الذين حضـــروا يقارب الخمسمائة.
و بعد انتهاء مــــراسم الاحتفال حوصــــرت فرق المماليك و قتلوا جميعا إلا من استطاع الهـــــــرب و كان ذلك في أول مارس 1811 م. كما أصدر محمد علي أوامـــــره إلي حكام المديريات بقتل كل من يعثــــرون عليه من المماليك في مدرياتهم. و يقدر عدد من أُغتيل من أمـــــراء المماليك في تلك الليلة بألف رجل في جميع أنحاء مصـــــــــــــــــــر.
وما أن خــــرجت أخبار المذبحة من القلعة حتي ســــارع عامة المماليك بالفرار و التخفي في قـــــــري مصـــــر حيث أختفوا في وسط الفلاحيـــــن.
و تعتبر مذبحة المماليك أكبر عملية اغتيال سياسي في تاريخ مصر الحديث، و بالرغم من بشاعتها إلا أنها خلصت المصــــــــريين من نفوذ المماليك الذي ظل طاغيا علي البلاد ستة قرون منذ مقتل شجــر الدر و تولي عز الدين أيبك عرش مصر عام 1250..وكان محمد علي هـــو أول من استغل الأراضي الجديدة التي تكونت نتيجة طرح النيل علي الجانب الشرقي من ضفته، و هي الأراضي التي
تعرف اليوم بشبرا و روض الفـــــــــــرج و بــــــــــولاق و الزمالك......
و محمد علي هو أول من خطط لرسم أحياء شبرا و روض الفرج عندما شق شارع شبرا سنة 1808م ليربط بين القاهرة و قصره الذي بناه في شبرا الخيمة، و كذلك المصانع المنتشرة في شبرا الخيمة..و زرع علي جانبي الشارع أشجار اللبخ و الجميز. و تبعه حكام مصــــــر من أسرته الذين توسعوا في إقامتهم في شبرا، كما سكنها الأهالي و خاصة بعد مد خط الترام في شارع شبرا عام 1902 م.... ليربطها بقلب القاهرة.
و من أهم منشأت محمد علي المعمارية قصـــره الذي بناه بشبرا الخيمة سنة 1808 م، و قصـــــري الجوهـــــرة و الحـــــرملك في القلعة، كما أنشأ محمد علي سبيلين، سبيل طوســــــــون في حارة العقادين الذي بناه سنة 1820 م صدقة علي روح ابنه طوســــــون، و سبيل اسماعيل في النحاسين الذي بناه سنة 1828 م صدقة علي روح ابنه اسماعيــــــل الذي توفي في الســـــــودان.
و من أشهـــــر منشأت محمد علي المعمارية مسجده الذي يعرف باسمه في القلعة و الذي بناه علي الطـــــراز التركي و يشبه مسجد السلطان أحمد باستانبول. أقامه محمد علي سنة 1830 م ، و يتمير بارتفاع مئذنته التي تصل إلي 84 مترا من مستوي أرض المسجد. و يشتهـــر هذا المسجد بساعة لويس فيليب الموجودة في صحن المسجد و التي أهداها ملك فرنسا لويس فيليب إلي محمد علي مقابل مسلة الأقصـر الموجودة الآن في ميدان الكونكورد في باريس. و عندما توفي محمد علي سنة 1848م دفن في هذا المسجد.
اهتم محمد علي بالتعليم بكل درجاته، و لكنه بدأ أولا بتأسيس المدارس العليا و إيفاد البعثات لها لكي يقــــوم المتخــــــــرجون من هذه المدارس بمسئولية التعليم في المــــــراحل الدراسية الأدني.
خلال المدة من عامي 1813 م و 1847 م أوفد محمد علي بعثات لإيطاليـــــــا و فرنسا و انجلترا للتعليم و اكتساب الخبرات اللازمة، و كانت البعثات في أول الأمــــــر لدراسة الفنـــــون العسكرية و بناء السفن و الملاحة و تعلم الهندسة
و الميكانيكا و أصــــول الري و الصـــــرف. ، ثم أرسلت البعثات فيما بعد لدراسة القانون و السياسة من طلاب الأزهـــــــر إلي النمسا و انجلترا.
و كان رفاعة رافع الطهطاوي الذي أوفده محمد علي إمامـــا لطلاب أول بعثة إلي فرنسا عام 1826 م قد أفاد كثيراً من الثقافة الإنسانية في فرنسا، حيث ساعدته الظروف بعد تعلم اللغة الفرنسية علي التعرف علي الواقع الإجتماعي و الثقافي و السياسي الفرنسي، فاقترح علي.. محمد علي تأسيس مدرسة الألسن عام 1836 م لتدريس اللغات الأوربية و الترجمة. و كان لتلك المدرسة الفضـــل الكبير في نقل كثير من معارف الغــــــــــــــرب إلي مصــــــــــر.
خلال المدة من 1816 م إلي 1839 م أقام محمد علي المدارس التي تخدم أهداف التنمية الاقتصادية و العسكــــرية مثل مدرسة المهندسخانة و الطب و الولادة و الصيدلة، و مدارس لتعليم أصــــــــــول المحاسبة و الفنون و الصنايع و الزراعة و البيطــــرة. و كان يلتحق بهذه المدارس تلاميذ الأزهـــر و الكتاتيب في البداية من الذين حصلوا علي قسط وافـــر من التعليم، ثم أصبحت المدارس عامة و مدنية الطابع ، و لقد أوجد هذا النوع من التعليم ثقافة مدنية تختلف عن الثقافة الدينية التي كانت طابع التعليم الديني السائد في وقتها ....
ولما تعددت المدارس و اتسع نطاقها، أنشأ محمد علي إدارة خاصة لها سميت ديوان المدارس سنة 1837 م، فكانت أول وزارة للتعليم.
كما أُنشئت في عهد محمد علي مطبعة بولاق كأول مطبعة كبــــــري في العالم العربي لتنقل المعارف العــــــربية و الغـــــــــربية، و لكن ســــرعان ما أخذت تلك المطبعة في طبع الكتب الإســــــــلامية في حــــركة إحياء للتراث العربي و الإسلامي. و كانت تلك المطبوعات تخـــــــــرج من مصـــــــر و توزع في جميع أقطـــــــــــــار العالم العربي.