صرخة يوسف ادريس “أهمية أن نتثقف يا ناس”
ما أشبه الليلة بالبارحة ويغلب على الظن أننا لم نترك البارحة بعد، بين أيدينا صرخة في كتاب تم نشره منذ 29عاما عنوانه”أهمية أن نتثقف يا ناس” وهو كما ترون آهة كاتب موجوع هاله ما نحن فيه ليس فقط من انعدام الثقافة بل واحتقارها أيضاً مما يهدد بأبشع كارثة انسانية يمكن أن يصاب بها أي وطن من الأوطان..ان تجارب الانتخابات المتتابعة على مدار العامين السابقين كشفت أن جماهيرنا تقاد بالشعارات الخادعة والعبارات التي تدغدغ العواطف ولا تخاطب العقل.
وأن هذه الجماهير تعمل غالباً ضد مصالحها وترتبط بوعي زائف لا يمت إلى احتياجاتها الأكيدة والحيوية وتنساق إلى حتفها في اندفاع غريب وبلا أي رؤية أو تمييز..ماذا حدث هكذا يبدأ يوسف ادريس كتابه بسؤال ملح يفرض نفسه..ماذا حدث؟؟ فكما يقول الكاتب: بعد أن كنا نقدر الذكاء والاضطلاع وخصوبة التجربة وبعد أن كانت أمثالنا الشعبية تكاد تشكل نظرية حياة ملهمة وساطعة الدلول و بعد أن كان المثقف في العصور الوسطى هو (مولانا) حيث لم تكن الثقافة قد انفصلت بعد عن الفقهاء الذين عرف بعضهم بالحكمة والاضطلاع وسعة الحصيلة المعرفية والموسوعية المدهشة وغزارة الانتاج العلمي وقد صنفوا الكتب في الطب والتاريخ وعلوم الفلك واللغة العربية والفلسفة من أمثال الفقيه (الامام جلال الدين السيوطي) ،
وعندما نهضت مصر على عهد محمد علي استدعى طلبة الأزهر الشريف وجعل منهم طلاباً في مدارسه العليا كالطب والمهندس خانة والألسن..بعد ذلك أصبح المثقف هو الأفندي أو الاستاذ الذي قد لا يتخرج من الأزهر بالضرورة لكنه لا يناقض الدين ولا يناصبه العداء بل قد يخدمه احيانا (خلافاً للمتأسلمين) واسلاميات طه حسين والعقاد وعبد الرحمن الشرقاوي خير شاهد على ذلك، والشاهد ان مجتمعنا كان يخلع على المثقف الالقاب الجديرة به فهو مولانا وهو لاحقاً الأفندي أو الاستاذ.ومع زمن (المسخ) الذي نعيشه أصبحت الثقافة كما يقول د/يوسف ادريس كلمة يتحسس البعض أنوفهم لدى سماعها وصارت مثار سخرية واستهزاء (تريقة باللهجة الدارجة)وانقلبت الأمور رأساً على عقب ليصبح الأكثر مالاً هو الأولى بالاحترام ولتصبح كلمة مثقف عنواناً لذلك الشخص المتحزلق قليل الحيلة كثير الكلام بلا هدف أو مضمون..
ويرى الكاتب أن مرض السطحية والضعف المعرفي أصبح منتشراً حتى لدى نخبة المجتمع من الفنانين والكتاب وهذا لا يحتاج إلى تأمل فنجوم التمثيل عادة لا يقرأون والأكثر ادهاشاً كما يرى الكاتب أن كتاب العواميد في الصحف والمجلات تمثل مقالاتهم بحسب عبارته”رأياً عاماً منخفض المستوى” ففيه تتجلى قلة المعرفة وغلبة السطحية والجهل الفاضح بأساليب اللغة وقواعد النحو والاملاء ،
ويشير المؤلف إلى برامج المسابقات التي كان يقدمها التلفزيون وكيف أصابته بالكآبة عندما اكتشف من خلال متابعته لها أن معظم المشتركين فيها معلوماتهم العامة تكاد تساوي صفرا وأنهم لا ينجحون إلا في اجابة السؤال الخاص بالأمثلة الشعبية ومعنى هذا كما يقول”أنهم لا يقرأون وانما يتلقون المعرفة سماعاً”؛ وها هنا لفتة هامة وهي غلبة الثقافة السمعية على تلك المكتسبة من خلال معاناة الاضطلاع ودأب القراءة ولاحقاً عرفنا الفيس بوك والانترنت لكنهما لم يشكلا بديلاً مناسباً لما تمثله القراءة كمعين ثقافي راسخ..
ويعرض د/يوسف ادريس لحقيقة غاية في الأهمية أن التعليم بلا ثقافة ليس فيه منفعة اللهم إلا تخريج كائنات آلية لا تجيد إلا صنعة ما وحتى في تلك الصنعة سوف نكتشف أنها كائنات تعمل على التعويق وليس على الابداع والتميز ويشرح الكاتب ذلك فيخبرنا أنه اذا كان التعليم هو التدريب على المهارات فإن الثقافة هي تمرين العقل للسيطرة عليها وتدريبه على الاختيار الحر القائم على المعرفة والتأمل والاقتناع التام والفارق بين الانسان العظيم والشخص التافه هو في الكم المعلوماتي المضاف إلى عقله ثم في القدرة على ترتيب المعلومات وبلورتها على نحو يمكن الانسان من اعتناق فلسفة خاصة به يزاول بها حياته ويسعد بها نفسه ومواطنيه..
ويرى الكاتب أنه عندما قامت ثورة يوليو وفتحت باب التعليم والعمل أمام (الطبقة المتوسطة الصغيرة) اكتشفت أنها سوف تخلق غولاً لا تستطيع مواجهته إلا بترويضه من خلال الثقافة؛ فالطبقة الوسطى بطبيعة تكوينها تسعى للالتحاق بركب الطبقة الأعلى وعلى ذلك تحكم التنافسية الحادة أفرادها على نحو لا يبالون معه إلا بما يعينهم على الوصول إلى الثراء وتحقيق الذات؛لذا فالدول حتى الرأسمالية منها تسن القوانين الصارمة لتنظيم حركة الطبقة الوسطى ومنع البعض فيها من الطغيان على البعض الآخر وفي نفس الوقت تعمل على تنميتها ثقافياً لأن ذلك من شأنه أن يحد من نهمها العارم وجشعها الملحوظ..
وكان أن قام نظام يوليو بتكوين شركات السينما وهيئات المسرح والثقافة الجماهيرية وأكاديمية الفنون ومع نكسة 1967م غامت ملامح هذا المشروع الضخم كما يرى الكاتب وترنحت خزانة الدولة بسبب تكاليف الحرب الباهظة وشرعت الدولة في التخلي عن دعم السينما ابتداء من عام 1971 وتسليم بعض مسارحها للقطاع الخاص الذي يحكمه مبدأ الربح والخسارة وهكذا عرفنا تلك المسارح التي تحولت إلى ملاهي ليلية وطرق سمعنا للمرة الأولى مصطلح(أفلام المقاولات).
ومع الكثافة السكانية المطردة تراجع بشدة دور الدولة في دعم الثقافة وذلك لانشغالها الدائم باطعام وإعالة وتعليم أفراد الطبقة الوسطى الذين يتزايدون بلا توقف وعلى نحو لا يتسق مع محدودية موارد الدولة وضعف بنيتها التحتية واقتصادها شبه المتهالك.
ورغم ذلك فالكاتب يرى منفذاً للأمل يتمثل في التلفزيون والاهتمام به باعتباره وسيلة للتثقيف المجاني ويرى الأمل كذلك في احياء مؤسساتنا الثقافية وعلاجها من أمراض الترهل والبيروقراطية وسوء التدبير المالي وهيمنة المنظومة الادارية بموظفيها التقليديين على حساب رواد الفكر والثقافة..
وقبل كل ذلك يرى الكاتب أنه لا أمل في أي اصلاح إلا مع وجود الرغبة الصادقة ثم الهمة التي تلي الرغبة وتعمل على تحقيقها وإلا فإن أخلاق الزحام والفقر مضافاً إليها انعدام الوعي سوف يؤديان بنا إلى الانقراض لنلتحق بالحفريات والآثار ويأتي السياح ليتفرجوا علينا بجوار الأهرامات والتماثيل..لذلك صرخ الكاتب ونحن نصرخ معه ونقول”أهمية أن نتثقف يا ناس.”.