النقراشي يشكل الوزارة
بعد اغتيال أحمد ماهر، كلف الملك محمود النقراشي باشا بتشكيل الوزارة في 24 فبراير 1945م.
بدأت تظهر تناقص شعبية فاروق، فقد تسببت الحرب العالمية في تغييرات اجتماعية و اقتصادية في الشعب المصري اخرجته عن هدوءة و حلمه و تفاؤله و ألقت به في أزمات خانقة جعلته أكثر تشاؤماً و واقعية، لذلك و لم تفلح معه حملات الملك الدعائية التقليدية.
و بعد تولي النقراشي الوزارة أعاد فتح باب المفاوضات مرة أخري مع بريطانيا حول الجلاء و حاول إحياء اتفاق {{ صدقي-بيفن }} الذي أفشلته المظاهرات الشعبية و استقالة صدقي، فتقدمت حكومته في 20 ديسمبر 1945 م بمذكرة للسفير البريطاني بطلب بدء المفاوضات حول الجلاء. و كان الشعب المصري لدية آمال عريضة في قرب الاستقلال بعد أن إنتهت الحرب العالمية الثانية و تأسست الأمم المتحدة التي أخذت تلعب دوراً مناصراً للشعوب في تقربر مصيرها.
و لكن الرد البريطاني في 26 يناير 1946 عاد وأكد علي الثوابت الرئيسية التي قامت عليها معاهدة 1936م و التي أعطت مصر استقلالاُ منقوصاً يتمثل في بقاء قوات بريطانية في مصر لتأمين قناة السويس، فكان الرد البريطاني بمثابة صفعة لكل آمال الشعب المصري، فاندلعت المظاهرات العارمة للطلبة في كل أنحاء مصر تطالب بالجلاء و قطع المفاوضات.
و في يوم 9 فبراير 1946م خرج الطلبة في مظاهرة من جامعة فؤاد الأول (القاهرة) إلي قصر عابدين و سلكوا طريق كوبري عباس، و تصدي لهم البوليس و حاصرهم فوق الكوبري و تم فتح الكوبري أثناء محاصرة الطلبة، فسقط العديد من الطلبة من فوق الكوبري في النيل.
أطلق البعض علي هذا الحدث مذبحة كوبري عباس. و بعض المؤرخين اختلفوا في المتهم الأول في هذا الحادث الأليم، كما إختلفوا في ضخامة الحدث نفسه. فالكثير ألقي بالتبعة علي رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي الذي كان رئيساً للوزراء و كان يتولي وزارة الداخلية أيضاً في تلك الوزراة، فاتخذ إجراءات قمعية ضد مظاهرات الطلبة و أطلق يد البوليس في استخدام العنف ضدهم.
و البعض الآخر يتهم حكمدار القاهرة( راسل باشا وحكمدار الجيزة... فيتز باتريك باشا.... لأنهما المسؤلان عن قمع مظاهرات الطلبة باستخدام أساليب غاية في القسوة
هذا الحادث لم يمنع الملك فاروق من منح نيشان محمد علي لرئيس الوزراء النقراشي باشا مما دل علي استهتار الملك بمشاعر الناس و لامبالاه إزاء ارواح شهداء الطلبة التي راحت في هذا الحادث.
و بدأت تتزايد مظاهرات الطلبة ضد الملك و خاصة في احتفالات عيد ميلاده. و لم يدرك فاروق تغير المزاج العام، و إنما حمٌل الوزارة مسئولية الاضطرابات، فقام بتغيير وزارة النقراشي و تشكيل وزارة جديدة برئاسة اسماعيل صدقي في 16 فبراير 1946م، وهو المتمرس في قمع الحركات الوطنية.
تزامنت وزارة صدقي مع مجيئ وزارة حزب العمال في بريطانيا، و حزب العمال كانت له رؤية مختلفة عن حزب المحافظين في التعامل المستقبلي مع مستعمرات بريطانيا و هي استبدال الاحتلال بعقد تحالفات أمن إقليمي مع المستعمرات الصغيرة لحمايتها من الوقوع في أيدي قوي استعمارية مناوئة لبريطانيا، مثل الاتحاد السوفيتي علي سبيل المثال. و بالتالي كانت بريطانيا تحت حكم حزب العمال مستعدة للجلاء عن مصر مقابل عقد حلف دفاعي معها.
و في 6 مايو 1946 أصدرت الحكومة البريطانية بيانا أعلنت فيه عرضها سحب جميع قواتها البرية و البحرية و الجوية من مصر بما فيها منطقة قناة السويس، و حددت خطوط التفاوض في ثلاث نقاط:
1- توطيد محالفتها لمصر علي أساس المساواة بين الأمتين تجمع بينهما مطالح مشتركة
2- أن يتقرر بالمفاوضات مراحل الانسحاب و مواعيده
3- الاتفاق علي ما يتخذ بين الحكومتين من تدابير لتحقيق التعاون في حالة الحرب أو خطر حرب وشيك الوقوع
و شكل هذا البيان الخطوط العريضة للمفاوضات التي جرت بعد ذلك بين الوفدين المصري برئاسة إسماعيل صدقي و البريطاني برئاسة وزير الخارجية بيفن. و الجدير بالذكر أن هذا البيان لقي معارضة شديدة من حزب المحافظين في بريطانيا و هاجمه تشرشل و إيدن
شكل اسماعيل صدقي وفد التفاوض المصري من حزب السعديين و حزب الأحرار و حزب الكتلة، بينما بقي حزب الوفد خارج وفد التفاوض.
تمثلت أكبر نقاط الاختلاف في ثلاث مسائل:
1. أراد المصريون الجلاء في سنة واحدة، بينما اقترح الإنجليز خمس سنوات
2. حدد الإنجليز حالة الخطر الموجبة لعودة قواتهم إلي مصر بعد الجلاء بأنها حالة الاعتداء علي أي من بلاد الشرق الاوسط بما فيها تركيا و إيران و اليونان، بينما أراد المصريون قصر الأمر علي حالة وقوع اعتداء علي الدول المجاورة لمصر فقط.
3. المسألة الثالثة تتعلق بالسودان ، حين طالب المصريون ببقاء الوحدة مع السودان تحت التاج الملكي، بينما أصر الإنجليز علي حق السودانيين في اختيار الوحدة أو الانفصال.
توصل الطرفان إلي حلول وسط في النقطتين الأولي و الثانية ، و لكن لم يتوصلا إلي أي حل وسط في النقطة الثالثة.
و لكن الشارع المصري كان رافضا لأي نوع من التحالفات مع بريطانيا تحت أي مسمي و أصدرت اللجنة الوطنية للعمال و الطلبة بيانا طالبت فيه بقطع المفاوضات و اتفقوا علي تنظيم مظاهرات يوم 11 يوليو و هو ذكري ضرب بريطانيا للاسكندرية عام 1882م.
نشط اسماعيل صدقي في تعقب و اعتقال قادة الطلبة و نشطاء الحركة و الوطنية و قمع المظاهرات، و أتهم القائمين بالمظاهرات بتهم الترويج لأفكار الشيوعية الهدامة الداعية إلي ثورة اجتماعية. ” إن الطلبة هناك سيعملون لإفساد العلاقات في القري بين الملاك و المزارعين و هذا أشد ما يكون خطرا علي النظام الاجتماعي.
و لكن الرفض الشعبي زاد فاضرب عمال الغزل الأهلية بالاسكندرية و ألقيت القنابل علي ناد بريطاني هناك.
استقال صدقي في 28 سبتمبر ربما ليفسح المجال لحكومة أشمل تستطيع إبرام الاتفاق مع الإنجليز، و لكن شريف صبري الذي كلفه الملك بتشكيل الوزارة فشل و عاد صدقي و لكن وزارته الثانية لم تستمر طويلا فقد زاد العنف في المظاهرات مع بداية العام الدراسي و زاد العنف المضاد في قمعها و كذلك إخفاق صدقي في تحريك موقف الإنجليز المصر علي فصل مسألة السودان عن مصر.
تقدم اسماعيل صدقي باستقالته التي قبلها فاروق، و كلف النقراشي بتشكيل الوزارة مرة أخري في 9 ديسمبر 1946م.
فشلت الحكومة في امتصاص غضب الشعب و فشل بيان الحكومة البريطانية يوم 7 مايو في تحقيق آمال المصريين في استقلال تام و شامل، و لكن المؤكد أن هذه المظاهرات الكبيرة و إن كانت موجهة في ظاهرها ضد التواجد الأجنبي في مصر و ضد حكومة صدقي الذي عرف بأنه جلاد الشعب، إلا أن المتمعن في مجمل الأحوال المصرية في ذلك الوقت يجد أن الغليان الحاصل قد يرجع بصورة أكبر إلي التردي الاقتصادي و الإحساس المتنامي بغياب العدالة الإجتماعية و تسلط حفنة من الرأسماليين و الإقطاعيين و أحزابهم التي تمثلهم علي مقدرات البلد، مما ينبيء بانفجار وشيك إلا إذا حدثت تغييرات اجنماعية كبيرة في مصر.
وكان لتواجد الاخوان المسلمين دور في الساحة السياسية في ذلك الوقت وقد استخدمهم فاروق كورقة رابحة ومضادة لحزب الوفد وقد
استخدمهم الملك لمناوءة تيار الوفد في البلاد و خاصةً في الجامعة. و لكن الموقف البريطاني كان متشدداً ضدهم، مما كان له الأثر في جعل فاروق ينقلب عليهم، و بناءً علي توجيهاته تم حل الجماعة في 8 ديسمبر 1948م، مما جعل الجماعة تخطط و تنفذ عملية اغتيال النقراشي باشا.
شكل إبراهيم عبد الهادي الوزارة في 28 ديسمبر 1948م، و استخدم القسوة في قمع الاضطاربات سواء من اليمين أو اليسار، و رد القصر علي اغتيال النقراشي باغتيال حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين.
و انتهي الأمر باستقالة إبراهيم عبد الهادي في 25 يولية 1949م. ثم شكل حسين سري وزارة قومية جمعت كل الأحزاب ما عدا حزب الكتلة حتي جرت الانتخابات في يناير 1950م.