لبني إبراهيم تكتب: حكاية شعب مع الموج الأزرق
ويأتي الصيف بعد أيام البرد القارس ولسعاته، والفراش الذي يغدق في الليالي السوداء دفئه ليحل محله الكرسي الممتد على شاطئ البحر. وتختفي الأغطية السمكية لتترك المجال أمام المكيفات والمراوح التي تلطف من لفحات الحر.
ومصر التي تقع في شمال القارة السمراء تتميز بمناخ شديد البرودة شتاء وشديد الحرارة صيفا بحكم موقعها في المنطقة الشبه جافة، كما أن امتداد الصحراء من مساحة مصر يؤثر على اعتدال مناخها سلبا.
الشتاء يمضي دون حرج فالكل يستطيع أن يستولي على حصته من الدفء بمضاعفة الملابس الشتوية أو بالمكوث في البيت أمام الموقد ومشاهدة التليفزيون،وفي العمل يمكن ذلك مع تذوق كوب من الشاي أو القهوة اللذيذة مع الزملاء.
ولا شيء غير ذلك،لكن مع لفحات هجير شهر يونيو المبكرة تشرأب الأعناق نحو البحر والرمال والشواطئ الجميلة الساحرة،وشعب مصر يستغني عن أشياء عديدة في الحياة اليومية من أجل الإدخار لصيف خال من الحر والملل المصاحب له.
وتظل الأم تقتصد في مصاريف البيت والمعيشية حتى توفر بعض المال للمصيف مثل جارتها فلانه وأختها وقريبتها ولا تنفك تحمس رب الأسرة في هذا الشأن حتى لا تشعر بأنها أقل شأنا من نظيراتها.
أما الأخرى فتباشر مع زميلاتها في العمل مشروعا جماعيا صغيرا ومحدود الرأسمال ويعرف بكثرة في بلاد النيل تحت مسمى"الجمعية"وكل ذلك لصيف آمن وممتع مع نسمات البحر العليلة.
فالكل في مصر له شغف غير مسبوق العهد بالبحر ولا مجال للحديث عن العطلة الصيفية دون ذكر الشاطئ الساحر بمياهه العذبة الصافية.
وبحلول فصل الخوخ والمشمش والفواكه الإستوائية اللذيذة يشتاق البصر إلى جولة ولو لأيام معدودات في أحضان الرمال الذهبية،وليس للعقل راحة إلا برؤية المياه الزرقاء والتأمل في عباب البحر.ويتيه القلب والوجدان في سحر وجمال المتوسط.
و الانسان المصري دون غيره من الجنسيات الأخرى يحتاج للاستجمام والإسترخاء في السواحل كيف لا وهو الكائن الأكثر تحملا لمشقة الحياة وضنك المعيشة،فمهما ضاق الحال المادي فإن الجيب يتسع لتوفير ثمن الإجازة الصيفية الممتعة.
لكن السواحل المصرية لها حكايات شتى مع الطبقات الإجتماعية والفئات العمرية المختلفة.فهناك شواطئ مخصصة للعائلات المحدودة الدخل حيث تتشارك الأشخاص ماديا في الفسحة ويفضل هؤلاء الشواطئ القريبة من محل الإقامة حتى تكون التكلفة الإجمالية غير باهظة مع التزود بالأطعمة والمشروبات وكل مامن شأنه التقليل من عبء المصاريف.
أما الشواطئ المبهجة والفاخرة فتمتد على طول الشريط الساحلي حيث تنتصب الفنادق الفخمة والمطاعم والكافتيريات والملاهي وكل مامن شأنه توفير الترفيه والمتعة للسائحين الذين تندمج معهم شرائح كثيرة من المجتمع المصري وتستفيد من رفاهية الخدمات السياحية،لكن لا مجال للحديث عن الدخل المادي لهذه الأفراد
فالإجازة الصيفية بالنسبة لهم الملاذ الوحيد من دأب الحياة الصاخبة وروتين العمل القاتل ولذلك دفتر الشيكات لا يتأخر عن سداد تكاليف المصيف.
وللشباب بجنسيه روائع الحكايات،فالشبان يرحبون بالصيف والبحر فهو فرصة للتعارف على أصدقاء جدد حيث تتسع الشواطئ للعب الكرة والتسابق في السباحة و مغازلة الفتيات الفاتنات.
لكن للشابات رؤية حميمية للبحر وتحليل عميق لأمواجه الزرقاء ولمده وجزره أبعاد حسية مختلفة،فهن من يتفنن في إختيار"المايوهات"التي تبرز مفاتنهن وتجذب لهن المداعبات اللفظية من الشبان المستلقين على الرمال الذهبية،ولا تنفك إحداهن تتثنى في مشيتها على الشاطئ كما القطة،فهذه نحيلة الخصر رشيقة القوام جميلة اللحظ تغري بدلالها كل العيون،وتلك ممتلئة ولا شأن لها بالرشاقة والرقة ولكن جاءت لتنال حظها من غمزات العيون والإستجمام،فالبحر ليس فقط مناسبة لغسل الأجسام من عفراء الحياة والعمل والدراسة وإنماهو أيضا مناسبة جميلة لتجديد المشاعر والظفر بشيء من المغامرات العاطفية.
نعم هكذا المصريون والموج الأزرق شأنهم شأن المحب وحبيبه الغائب يظل الواحد منهم ينتظر اللقاء حتى يزيح عن قلبه أعباء شتى،فالموج الأزرق لايغسل الهموم فقط وإنما يجدد العهد مع الحياة المريحة ولو لبعض الحين وينسى الفرد الروتين اليومي المنفر للراحة النفسية،فبعيدا عن هذه السواحل الساحرة والأمواج الثائرة حينا والمتلاطمة أحيانا لا يفكر المرء إلا في كيفية جلب الرزق والعيش،لكن على الشاطئ وأمام الموج يسقط القناع وترمى كل الأحمال ولا مجال إلا للتأمل في جمال البحر والسفر مع سفنه إلى مالا نهاية له.
ففي الصيف تتوقف الحياة الكئيبة والمضنية عند بعض الطبقات ردها من الزمن وتستعيد الأسر بأسها وبسالتها من فرص المصائف والجولات على الشريط الساحلي،وإن يكن هذا التغيير محدودا من حيث الزمن بالنسبة لبعض الأسر المحدودة الدخل فإنه يؤثر في نفسيتهم مثلما التأثير على الأسر المرتفعة الدخل،فالكل متساوون أمام الموج الأزرق،والكل يستمتع بنفس القدر وإن إختلف الكيف،فالبحر لا يفرق بين غني وفقير ولا كبير وصغير.