يحيى ياسين يكتب: المدينة الجامعية ”باريس” على أرض مصرية
دويلة صغيرة تضم كافة الطوائف والأفكار والأنماط الاجتماعية، لكنها تفتقر الموارد والتنظيم والإدارة كأنها من دول العالم الثالث!، "صحراء جرداء لا زرع بها ولا ماء"، لكنها تظل مأوى لطلبة أنهكتهم الغربة أرهقتهم تكاليف الدراسة والمسكن الخارجى، فإما أن تقبل بعنائها أو تزيد نفسك عناء خارجها!
حدثنى أحد أصدقائي أن أقدم على المدينة الجامعية لأول مرة منذ التحاقي بالجامعة نظرا لرداءتها فقبلت رغم علمى بمرارة التجربة!، فإذ تجد نفسك أمام سيل من الشروط وكأنك ستلتحق ب"السوربون الفرنسية" منها الغريب والعجيب والمريب!، " فيش وتشبيه وكأن طلاب الجامعة أصبحوا قيد الاشتباه فأرادوا فحصها! فضلا عن تحليل للمخدرات! الذي يتكلفه الطالب والعديد من ورقات الضمان وغيرهم من إجراءات البيروقراطية الحكومية!
ليس ذاك فحسب! بل تنتظر القبول لتتجهز لإجراءات التسكين التى تأتى بعد اسبوع على الأقل من بدء الدراسة! بعد أن تتكلف ما لا يقل عن الألف جنيه أول شهر للالتحاق بمدينة هى مدعومة من قبل الحكومة!، فإذا ما دخلت أسوارها قلت ماشاء الله ، لا حول ولا قوة الا بالله من هول ما رأيت!
أسوار المبانى كلوحات نُقشت على أيد مطلية بالذهب! ويا لجمال ونظافة الغرف! ويا لنقاهة المياه كأنها من زمزم فُجرت! ، تجد نفسك فى صحبة أربعة من الزملاء بأسّرتِهم ومكاتبهم وحشرات تلتصق على الأسوار لا تعرف لها دعوى! فضلا عن دورات المياه التى تشتم رائحتها من غرفتك وكأنها العطر الباريسي!
وإذا أقبلت على الطعام تنظر إلى أيدى الطابخين تجدها نظيفة لدرجة التعقيم مرتدين "الجوانتى" نظيفي المظهر ، فتنظر إلى "سرفيس الطعام" تجده نظيف جدا لامع ترى فيه وجهك من شدة جماله، فيُعطوك الطعام كأنهم من جلودهم يقطعون! ثم تجلس لطعامك تجده لذيذ شهى ريثما تظن أنك لا تدرى ما نوعه من جماله! قطعة من الفراخ "المدمم" وقد تجد أرزا يُحدث "طرقعة" فى فمك وخبزا صُنع من عجين قد خُلط بالتراب !
وما أجمل الفناء المزين بالأزهار! لا تجد فيه غبار وكأنك فى الصحراء آت من مدفن ! أجدنى أنظر فى الفناء مُحوقلًا مسلما أمرى لله فى المال المهدر فيها ومع ذلك نحمده على نعمة الأهل الذى جمعتنا وإياهم تحت سقفها! فتجد الطلبة رغم المرارة وفراق الأهل وألم الغربة إلا أنهم راضين بصحبتهم وإن قلت حوائجهم!
وعلى عكس الطراز الجامعى الذى صُممت من أجله هذه المدينة لتقلل على الطلبة بعد المسافة بين المسكن والكلية ! إلا أنها تبعد المسافات من البلدة والجامعة التى تضم مُختلف الكليات وأغلبها، فعليك أن تمتطى عربتان وتتيقظ باكرا حتى تنتظر العربة أو تجد لك مكانا يحملك لغايتك! وتتكلف الذهاب والعودة قبل الخامسة حتى تجد من يُبلغك موطئك، فجامعتنا الموقرة تنقسم لثلاث أماكن مختلفة.
وإذا حل الظلام يسودها سواد وصمت لا تسمع فيه سوى همهمات طالب يحفظ دروسه أو اثنين يتناجيا لتسلية بعض أمورهم فلا ترفيه بها ولا شئ سوى أن تدرس أو تنام أو تترجل كيلومترا حتى تجد ناقلة تنقلك إلى البلدة فتترفه قليلا وتعودهم أخرى، ليس ذلك فحسب، بل لا تجد لنفسك شيئًا من الخصوصية أبدا فإن أردت النوم قد تجد آخرا يدرس فلا طاقة لك أن تمنعه! وقد تجد الآخرين يتناجون فلا طاقة لك أيضا بإسكاتهم!
وإذا أقبلت متأخرا عن الحادية عشر مساءًا انتظرت عطف حنان الأمن على البوابة بعد أن يقيم معك التحقيق متهكما ساخرًا من أى عذر تقدمه له!، وما بالك لو كنت قادمًا من سفر بعيد فوصلت متأخرا كالثالثة فجرًا، فإذ بك تجد حُراس الأمن قد أغلقوا أبوابهم وافترشوا لنومهم فما عليك سوى أن تطرق الأبواب وتنتظر أن يمُن عليك أحدهم وأن يتفضل عليك بالدخول!
وإن كانت لك حاجة أو شكوى تُقدمها للمشرف تجده يأتيك متحدثا غاضبا كأنك تسكن فى منزله مقدمًا التهديدات بالفصل والتصرف، والصاعقة لو وجدك تحوى "وصلة كهرباء" أو سخان كهرباء أو حتى سكين! بزعم توفير الطاقة، كأنك قبض عليك بإتجار فى المخدرات، فتجده يصيح ويشيح ويكأنه الحاكم الأعظم داخل جدران هذا المحبس الذى عليك أن تقبل بقوانينه لا تجادل بها ولا تتذمر!.
فأى بُئس يعانيه أهل هذه المدن الجامعية! ولا يقدرون أن يُحركوا ساكنين لقلة حيلتهم وحاجتهم إلى أقل تكلفة بعد أن صعُبت ظروفهم؟ وإذ تجد مسئولًا يتنطع فى الجواب بأنها أقل تكلفة من الخارج وتوفر الطعام! فوالله ما أصبحت كذلك إذ رُفعت رُسومها الضعف وزيادة عليه هذا العام لتسجل « 350» جنيها بعد أن كانت «165» ! وأما طعامهم فسئ قليلا لا يرضاه أحد أن يطعمه سوى المُجبر عليه وإن كان حسنا فى بعض أحواله.
أفلا تًصلحوا هذه الدويلات الصغيرة ولو قليلا فقد ضاقت نفوسنا! القليل من الإصلاح فحسب، فلا أنكر خيرها فى الطعام والمسكن والألفة بين الطلبة وأمان للفتيات فى جمعهم تحت سقف واحد بسور مؤمن، فمتى تصبح المدن الجامعية "باريس" على أرض مصرية؟