م. أحمد اليمني يكتب: فيل أفلاطون!!
هل يملك أحدٌ الحقيقة المطلقة أو الحقيقة الكاملة؟
الاجابة: لا يمكن ذلك، إلا إذا كانت عن طريق الوحي.. ومن ثمَّ فلا يستطيع شخصٌ عادي أن يدعي ذلك، وإذا كان كذلك، فيمكننا القول بأن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه ولا أخطئوه في كل وجوهه، بل أصاب كل إنسان جهه، ومثال ذلك كما ذكره أفلاطون:
أن عميانا انطلقوا إلى فيل !! وأخذ كل منهم جزء منه فجسه بيده، وتخيله في نفسه، فأخبر الذى مَس الرِّجل أن خلقة الفيل طويلة مستديرة شبيهة بأصل الشجرة، وأخبر الذى مَس الظهر أن خلقته تشبه الهضبة العالية، والرابية المرتفعة، وأخبر الذى مَس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه وينشره، فكل واحد منهم قد أدى بعض ما أدرك، وكلٌ يكذب صاحبه ويدعى عليه الخطأ والجهل فيما يصف من خلق الفيل؛ فأنظر إلى الصدق كيف جمعهم، وانظر إلى الكذب والخطأ كيف دخل عليهم حتى فرقهم !!
أليس هذا هو حالنا تمامًا؟ فبمجرد أن يمتلك الإنسان جزءً من معلومة ما، يظن أنه قد امتلك الحقيقة المطلقة، وسرعان ما يقوم بتنصيب نفسه إما حاكمًا أو طبيبًا أو شيخًا، ويعتقد كذبًا أن ما عنده هو الصواب وأن ما عند غيره هو الخطأ، ولا يدرى أن العالِم الحق هو من يعي أن رأيه هو الخطأ ورأى غيره هو الصواب.
يحضرنى قول الحق سبحانه وتعالى من سورة "آل عمران"، قال تعالى: "وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ".
وقد جاء فى "الطبرى": "إن موسى لما حضره الموتُ دعا سبعين حَبرا من أحبار بني إسرائيل، فاستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليه، كلّ حبر جُزءًا منه، واستخلف موسى يوشع بن نون. فلما مضى القرن الأول ومضى الثاني ومضى الثالث، وقعت الفرقة بينهم - وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين - حتى أهَرقوا بينهم الدماء، ووقع الشرّ والاختلاف. وكان ذلك كله من قبل الذين أتوا العلم، بغيًا بينهم على الدنيا، طلبًا لسلطانها وملكها وخزائنها وزخرفها، فسلَّط الله عليهم جبابرتهم"
ونحن معشر المسلمين لسنا بمنأى مما حدث فى عصر نبى الله موسى عليه السلام، فنحن أيضا اختلفنا وتفرقنا إلى قرابة ما تفرق عليه اليهود والنصارى، وأن الأمر في أغلب حالاته كان يبدأ بجدل ينتهى إلى خلاف ، فيتحول الجدل فى مسألة جزئية إلى خلاف في قضايا كلية، تصير بها فرقا مختلفة .. ومن أمثلة ذلك ما ذكره الدكتور أبو زهره – رحمه الله عليه- فى كتابه "المذاهب الإسلامية" يتحدث عن اختلاف الخوارج فيما بينهم حتى بعد ما انشقوا عن سواد الأمة: أن رجلًا منهم اسمه "شعيب" كان مدينا لآخر اسمه "ميمون" ، فلما تقاضى هذا دينه، قال "شعيب" أعطكيه إن شاء الله.
فقال "ميمون": قد شاء الله ذلك في هذه الساعة.
فقال "شعيب": لو شاء لم أستطع إلا أن أعطيكه.
فقال "ميمون": قد أمر بذلك، وكل ما أمر به فقد شاءه، وما لم يشأ لم يأمر به.
فأرسل "شعيب" و "ميمون" إلى رئيسهم وإمامهم "عبد الكريم بن عجرد"، فأجابهم إجابة مبهمة، وهى: "إنما نقول ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نلحق بالله سواء"
ولهذا الإبهام في الإجابة ادعى كل منهما أن الإجابة توافق رأيه، وانقسم العجاردة إلى "شعيبية" و"ميمونية"!!
لا ندرى أنضحك على هذا أم نبكى عليه وعلى حالنا؟؟
رحم الله مولانا الإمام "البوصيرى" حينما قال فى "البردة": "لم يمتحنا بما تعيا العقولُ بـــه حرصًا علينا فلم نرْتبْ ولم نهـــمِ"
لا أملك فى نهاية مقالى إلا أن أعظ نفسى وأقول لها : ان "الآخر" مهما ظهر فى رأيه من خطأ، فلابد أن يكون هناك جزء من صواب عنده، وأننى مهما رأيت الصواب متحالفا معى، فلابد أن يكون بجانبة جزء من خطأ .. وأعظ نفسى أيضا فأقول لها : لو اتبعنا سياسة "ترك الجدل ولو على حق" لربحنا الآخرة والأولى .. رحم الله أمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووحد كلمتنا ورأينا وعقيدتنا إلى ما يحبه ويرضاه.. أمين.