هيام محي الدين تكتب: تجديد الخطاب الديني (11) الفصل الثاني ”مناهج البحث” منهج الأولويات واستعادة الوعي
لم يتعامل الفكر الديني مع هذا المنهج بصورة علمية شاملة ودقيقة طوال العصور السابقة نظرا لأنه منهج يحجم إلى حد كبير سلطان الكهنوت المحتكر والمتاجر بالدين والذي تتحقق استفادته باتساع مجال الموضوعات الفرعية وربط كافة أنواع المعارف والفنون والعلوم بتفسير رجال الدين وفهمهم للنص الديني ؛ حيث يمثل المظهر الخارجي والروايات النقلية والأساطير بل والخرافات المنافية للعلم والعقل المساحة الأوسع من بضاعتهم التي يتاجرون بها ويحصلون من خلالها على المكانة والسلطة والثروة ؛ والتحكم في عقول البسطاء الذين يحسنون بهم الظن ؛ فيحرمون أشياء لا تمس عقيدة ولا عبادة ولا سلوكًا ؛ ويحولون عادات ومظاهر حياة عصور سابقة إلى فرائض دينية ملزمة ؛ ويهملون الأولويات الضرورية للنهوض بالمجتمع وتحقيق تقدمه ورقيه لحساب مظهر شكلي لا يمثل أولوية ضرورية لنهوض المجتمع ؛ بل إنهم – ولغرض في نفوسهم – لا يبحثون ترتيب أولويات الضرورات المجتمعية للأمة بحيث تكون هي الموضوعات التي يقوم الفكر الديني بدعمها وترسيخها لتحقيق السعادة والرخاء ؛ وعدم الاستغراق في فكر المظهر الخارجي ؛ والطقوس العبادية الظاهرية التي لا ترتبط بتأصيل عقيدة أو نشر فضيلة تعود على المجتمع والفرد والأمة بنتائج إيجابية في السلوك والتقدم والحضارة وعلاج ما يعانيه المجتمع من مشكلات.
فليس من المقبول من مجتمع يشيع فيه الكذب والفساد وخيانة الأمانة والظلم ؛ أن تكون أوليات خطابه الديني هي إطلاق اللحي وتقصير الجلباب وفضائل النقاب وفرضية الحجاب ؛ ولا يعطي للصدق والأمانة والعدل المساحة الملائمة من خطابه الديني ومدى ارتباط هذه السلوكيات الأخلاقية بمبادئ العقيدة والعبادة والسلوك الإيماني وفظاعة الإثم الذي يرتكبه المخالفون لهذه القيم الإسلامية من الكاذبين والفاسدين والمنافقين والمتسلقين والطغاة ؛ والتركيز على ما وعد الله الصادقين الأمناء العادلين من ثواب وما توعد به الكاذبين الظالمين من عقاب ؛ كما أنه ليس من الوعي السليم بمتطلبات مجتمع يعيش 40% من أفراده تحت خط الفقر أن يؤيد خطابه الديني توجه مليون فرد من أثريائه لأداء طقوس سنة العمرة خلال شهر رمضان وحده لينفقوا قرابة عشرة مليارات من الجنيهات ؛ في عملية بيزنس ديني بامتياز تتربح منها شركات السياحة التي فشلت في جذب السياح ويجند لها كهنوت ديني يعد المعتمرين بغفران ما تقدم من ذنوبهم وطغيانهم وسرقاتهم فيشجعون الفاسدين على معاودة ممارسة كل أنواع الفساد مادام باب المغفرة مفتوحًا برحلة عمرة ولو أنفقت هذه المبالغ الطائلة على دعم التعليم ببناء المدارس ودعم الصحة بتجهيز المستشفيات ومحاربة الفقر بتوفير فرص العمل من خلال خطاب ديني مستنير يعرف أولوياته ومتطلبات مجتمعه في هذه الفترة من تاريخه، لاستطعنا تغيير وجه الحياة والتغلب على عشرات المشكلات التي تعوق مسيرة التقدم.
فمنهج الأولويات يقوم أساسا على وعي دقيق وموضوعي باحتياجات و ضرورات مجتمع ما في فترة زمنية ما ووضع الأساليب التنفيذية على أسس علمية ومجتمعية تستخدم معارف وعلوم وتقنيات العصر في ترتيب ما يتطلبه تقدم المجتمع واستعادته لقوته وحيويته وقدراته وإزاحة ما يعوق انطلاقه نحو النمو والتقدم والرخاء على أساس البدء بالأهم فالمهم والحتمي فالضروري وطرح الفرعيات التي يمكن أن تعوق تركيزه على الأولويات ؛ وتخرجه عن مساره في إنجازها ؛ ومع شعب متدين كالشعب المصري يشكل تجديد الخطاب الديني على أساس من منهج الأولويات أهمية قصوى وسلاحا حاسما في القضاء على السلبيات المعوقة للتقدم والتأكيد على الإيجابيات التي تؤدي إليه فتركيز الخطاب الديني مثلا على محاربة الفساد يكون بالتأكيد على تحريم كل ممارساته ومظاهره من سرقة للمال العام ورشوة ومحسوبية ووساطة وبيان جسامة الإثم فيها وغضب الله على من يمارسونها ؛ والانتقال إلى بيان ثواب الله ورضاه عن الحريصين على الطهارة والأمانة والعفة والصدق والعدل والتسامح مهما كانت المغريات وتركيز الخطاب الديني في هذا الاتجاه ، بحيث ينشأ عنه رأي عام وسلوك مجتمعي يحتقر الفساد والفاسدين ويحارب اللصوص والمرتشين ويرفض المحسوبية والوساطة ويتعاون المجتمع والسلطة معا في القضاء عليها ويرتبط ذلك السلوك في العقل المجتمعي العام بثوابت الدين ومبادئه واعتبار الممارسين للفساد من العصاه الذين ينبغي كشفهم وتقويمهم وإعادتهم إلى الطريق المستقيم ابتغاء مرضاة الله وثوابه وتطهير للأمة من الفساد ؛ وكذلك مع الذين يحاولون إغراق المجتمع في الفرعيات الشكلية والمظهرية والاستغراق في طقوس عبادية أو روايات تراثية أو أساطير وخرافات لا علاقة لها بصحة العقيدة وخلوص العبادة عن طريق خلق رأي عام مستنير يرفض الانسياق وراء ترهاتهم وينبههم إلى أولويات ما تحتاجه المرحلة التي يعيشها المجتمع من التأكيد على قيم العمل والإنتاج وتقديم صالح الأمة على مصالح الأفراد والتحلي بمكارم الأخلاق من صدق وأمانة وعدل وعفو وحرية ؛ واحترام حرية الآخرين في الاعتقاد والتعبير وبيان حث الدين على ذلك وعلى عدم التمييز بين الناس بسبب العقيدة أو الجنس أو اللون أو الرأي ولدينا النص الديني الملزم يؤكد كل هذه الحقائق ولكننا نطرحه جانبًا لحساب مظهر شكلي أو طقس دخيل أو روايات عصور سلفت ؛ لا تمت لعصرنا وضروراته بصلة.
إن منهج الأولويات ضروري لاستعادة الوعي بالعصر الذي نعيشه والتقدم الذي نريده كما نستعيد به الوعي بما يعوق تحرير المجتمع من قيود التخلف والتبعية وكيف نضع ترتيبا لهذه الأولويات لنركز على الأهم فالمهم فيها مثل قضايا الفساد والفقر ؛ وقضايا الصدق والأمانة ، وفضيلة العدل لا النقاب وفرضية العفة لا الحجاب ؛ وعظمة التكافل والتعاون لا الاختلاف والتباغض ؛ وهذا واجب المفكرين المستنيرين في تحديد الأولويات ووضع الخطط للوصول إلى الهدف المنشود من كل منها ؛ والزمن المطلوب لتحقيقها ؛ وظني أننا نملك الفكر ولكننا نفتقد الإرادة التي يعوق الوصول إليها ؛ مصالح فئوية ؛ وأهداف أعداء هذه الأمة الذين يحاربون تقدمها ورقيها ويسعون إلى تفتيتها وتهميشها.