في ذكرى ميلاد زعيم استثنائي أيقظ روح الاستقلال والكرامة العربية
قبل 104 عاما كانت مصر والأمة العربية، على موعد مع ظاهرة تاريخية عربية، أعادت تصحيح مسار تاريخ الأمة، وأيقظت روح الاستقلال الوطني والقومي، بكل ما تعنيه اليقظة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية..
كان الموعد في ذلك المساء من يوم 15 يناير 1918 .. حين ولد الطفل الأول لموظف «البريد» الصعيدي البسيط، عبد الناصر حسين خليل، وفي تلك الليلة التي غيرت كل شيء بعد 34 عاما في مصر والوطن العربي.. كانت مصر على موعد مع (رجل العدالة الاجتماعية ونصير الفقراء) .. وكان العرب على موعد مع (رجل القومية العربية).. بينما كانت أفريقيا على موعد مع (رجل التحرير). وعلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية كانت أمريكا اللاتينية أيضا على موعد مع (رجل الثورة.. النموذج والقدوة).
وكان الموعد مع مولد (زعيم) طال انتظاره عبر التاريخ الحديث، وقد أعطى أمته العربية يقينا متجددا بأنها موجودة، وأعطى لهذا اليقين المتجدد بالوجود حركته التاريخية، وأنجز بهذه الحركة مهاما كبيرة على أرضها، وحول أرضها، وفي العالم.
تصحيح توجه الدبلوماسية المصرية
وضع عبد الناصر اللبنة الأولى فى صرح الدبلوماسية المصرية، ربما طرأت عليها تغيرات طبيعية السنوات الماضية، لكنها لا تزال عصب الدبلوماسية المصرية، حيث رسخت لفكرة أن النهوض بالأمة العربية يأتى فى المقام الأول عبر حماية الأمن القومى العربى والتفاعل الأفريقى والترابط الإسلامى، تلك الأسس التى وضعها عبدالناصر قبل أكثر من نصف قرن، وغابت طويلا عن صانع القرار فى مصر قبل أن يعيد أحيائها الرئيس عبد الفتاح السيسي بدبلوماسية عابرة للحدود، وضع الأمن القومى العربى نصب عينه، وانطلق لتعزيز علاقة مصر بالقارة السمراء.
قيمة وأهمية موعد الأمة العربية مع التاريخ ..عبر عنه الكاتب والمفكر المصري الكبير الراحل أحمد بهاء الدين، قائلا: إننا إذا أردنا فى حقيقة الأمر أن نلخص دور عبدالناصر إلى أقصى درجات التلخيص، وأن نلخص الموجة التى دفعها والتي حملته فى نفس الوقت لقلنا: إن معركته هى معركة من يريد أن تكون «الإرادة» فى المنطقة العربية إرادة عربية، والقول فى مستقبل العرب للعرب.. ضد الذين يريدون أن تكون الخيوط المحركة فى المنطقة مربوطة فى النهاية إلى أيد غير عربية وإرادات غير عربية.
بقول أحمد بهاء الدين: الشرق الأوسط, منطقة هامة وحساسة لا يمكن أن تغفلها أى قوة كبرى من حسابها. وكل قوة من القوى تحمل فى مخيلتها «خريطة» تتمناها لهذا الشرق الأوسط، وتعمل على تحقيقها، بينما كان عبدالناصر، يقف كحجر العثرة فى طريق كل من يرسم خريطة من هذا النوع للمنطقة..فرنسا يوماً وانجلترا يوماً آخر وأمريكا يوماً ثالثاً وإسرائيل كل يوم، وهي متعلقة كل يوم بذراع من يرسم خريطة للمنطقة تناسب هواه وهواها.. وكانت المشكلة هي زعامة عبدالناصر.
هذا هو مغزى زعامة عبدالناصر.. وهذا هو مغزى الارتباط العميق بينه وبين الجماهير العربية..عبدالناصر يعترض طريق الجميع.. جميع الغرباء عن المنطقة.
هذا الرجل..جاء في لمحة ضوء تاريخية عربية لم تتكرر.. وربما لن !!
ويضيف الكاتب والمفكر الكبير الراحل: أعرف ساسة ورسميين وأفراداً عاديين في أقطار عربية شتى.. ليسوا من الملتقين مع أفكار عبدالناصر ولم يكونوا دائماً من الواقفين معه.. ولكنهم حتى هم فى ساعات الظلام والخطر والغموض يجدون أن وجود زعامة عبدالناصر فى المنطقة تعنى لهم شيئاً، تعنى عدم القفز إلى المجهول..وقال لى مسئول فى ركن قصى صغير من أركان العالم العربى: «الأجنبى حين يتعامل معنا يحسب الآن حساب أننا من الأمة العربية وهذا شيئ أوجده عبدالناصر».
كان كتابه «فلسفة الثورة» الذي قدمه في السنوات الأولى لثورة يوليو 1952، هو دستور الزعيم (الحلم) والاستثنائي في تاريخ الأمة.. الكتاب وثيقة تاريخية، رسخت لفكرة أن النهوض بالأمة العربية يأتى فى المقام الأول عبر حماية الأمن القومى العربى والتفاعل الأفريقى والترابط الإسلامى، تلك الأسس وضعها عبدالناصر قبل أكثر من نصف قرن، ورسم رؤية ونهج فى الداخل والخارج، مكنه خلال تلك الحقبة من إحداث انتصارات ضخمة، تخللها تجارب مريرة، وفترات إنجاز وقصور شكلت فى مجملها مرحلة تاريخية من أدق المراحل التي مرت بها مصر والأمة العربية، ليحمل عن جدارة لقب «زعيم الأمة».
موعد مصر مع زعيم استثنائي
وإذا كانت الأمة العربية على موعد مع التاريخ بمولد «جمال عبد الناصر حسين»..فإن مصر كانت في المقدمة وهي موعد مع زعيم استثنائي بدل أحوالها بما يشبه الحلم، فقد رحل عبد الناصر، بعد أن تحقق له حلم إنشاء أكبر قاعدة صناعية فى العالم الثالث، حيث بلغت عدد المصانع التى أنشأت فى عهده 1250 مصنعا، منها مصانع صناعات ثقيلة وتحويلية وإستراتيجية (تم بيعها وخصخصتها بثمن بخس بعد رحيلة).. وتم إدخال الكهرباء والمياه النظيفة والمدارس والوحدات الصحية والجمعيات الزراعية إلى كل قرى مصر، وتم ضمان التأمين الصحي والإجتماعي والمعاشات لكل مواطن مصري .. وزيادة مساحة الرقعة الزراعية بنسبة 15% ، ولأول مرة تسبق الزيادة فى رقعة الأرض الزراعية الزيادة في عدد السكان. وزاد عدد الشباب فى المدارس والجامعات والمعاهد العليا بأكثر من 300 % .. وزادت مساحة الأراضي المملوكة لفئة صغار الفلاحين من 2,1 مليون فدان إلى حوالى 4 مليون فدان .. وكل ذلك تم بدون ديون على مصر.
وفي الداخل كان الاختبار قاسيا، في وطن غالبية سكانه من «الحفاة»، ومتوسط الدخل القومي للفرد حوالي 47 جنيها فقط..وكان الاقتصاد المصري متخلفـًــا وتابعًا للاحتـكارات الرأسمالية الأجنبية، يسيطر عليه بضع عشرات، أو مئات على أقصى تقدير، وكانت نسبة البطالة بين الـمصريين 46% من تعداد الشعب، ونسبة المعدمين من سكان الريف تبلغ 80% من جملة السكان.. ونسبة الأمية بلغت 90% ، ومعدلات المرض حققت أرقامـًـا قياسية حتى أن 45% من المصريين كانوا مصابين بالبلهارسيا، وغيرها من مختلف الأمراض التي تنتج عن سوء التغذية..وترتب على هذا ـ بفكر الضابط الشاب قائد الثورة ، المقدم جمال عبد الناصر حسين ـ خط معين في التنمية الشاملة، استطاع ـ على سبيل المثال ـ فيما بين سنة 1956 إلى سنة 1966 أن يعطي زيادة سنوية في الدخل القومي بمعدل 6،7 % طبقا لتقرير البنك الدولي بتاريخ 5 يناير 1976 ، وهي نسبة لم يكن لها مثيل في العالم النامي كله.
كانت البداية تحمل دلالات ومعان الارتباط بين الزعيم وأحوال بلاده..كانت هناك رسائل «مشفرة» بين عبد الناصر والجماهير التي كانت «مغلوبة على أمرها».. وعلى سبيل المثال ، ففي بداية ثورة يوليو كان جمال عبد الناصر فى جولة بالقطار بمحافظات الصعيد ، وكان القطار يقف فى كل محطة ويلوح عبد الناصر بيديه للناس ، وفى إحدى المحطات أراد أحد عمال التراحيل أن يقول شيئاً للرئيس ولم ينجح.. فألقى عليه بمنديله المحلاوى، وتلقف عبدالناصر المنديل بينما أصيب الأمن المرافق له بالهلع خوفاً من أن يكون داخل المنديل قنبلة، وفتح الرئيس المنديل فوجد به (بصلة ورغيف عيش بتاو) ، و لم يفهم أحد من الحضور لماذا رمى الرجل الطيب بهذا المنديل وما داخله؟ .. إلا أن جمال عبد الناصر كان الوحيد الذي فهم ماذا تعني هذه الرسالة وأطل برأسه بسرعة من القطار و راح يرفع صوته فى اتجاه الرجل الذى ألقى بمنديل قائلا له : ” الرسالة وصلت يا أبويا ، الرسالة وصلت .. ” .
وعندما وصل أسوان أصدر جمال عبد الناصر قانون عمال التراحيل والحد الأدنى والأقصى للأجور، و فى خطابه مساء ذلك اليوم فى جماهير أسوان قال : ” أحب أقول إن الرسالة وصلت وأننا قررنا زيادة أجر عامل التراحيل إلى 25 قرشا فى اليوم بدلا من 12 قرشا فقط ، كما تقرر تطبيق نظام التأمين الاجتماعى والصحى على عمال التراحيل لأول مرة فى مصر” … لقد فهم جمال عبد الناصر الرسالة التى لم يستطع أحد غيره أن يكسر شفرتها ، فالمنديل المحلاوى هو رمز عمال التراحيل وهم العمال الموسميين الذين يتغربون فى البلاد بحثا عن لقمة العيش ولا يجدون ما يأكلونه سوى عيش البتاو وهو نوع من الخبز يعرفه أبناء الصعيد يصنع من الذرة مع مسحوق الحلبة ..
قبل رحيله بلغت نسبة النمو الاقتصادي 8%
وربما لا يعرف كثيرون.. أن الاقتصاد المصري، على الرغم من هزيمة الجيش في 5 يونيو/ حزيران 1967 استطاع أن يتحمل تكاليف إتمام بناء مشروع السد العالي الذي اختارته الأمم المتحدة عام 2000 كأعظم مشروع هندسى وتنموى فى القرن العشرين، والذى يعادل فى بناؤه 17 هرما من طراز هرم خوفو.. ورغم آثار الهزيمة العسكرية، فإن الإرادة المصرية لم تهزم ، وتم بناء مجمع مصانع الألمونيوم فى نجع حمادي، وهو مشروع عملاق بلغت تكلفته ما يقرب من 3 مليار جنيه.. واستطاعت مصر فى ظل نكسة 67 أن تحافظ على نسبة النمو الإقتصادى كما كان قبل النكسة، بل أن هذه النسبة زادت فى عامى 1969 و 1970 وبلغت 8 % سنويا، وفقا لتقرير البنك الدولي .. واستطاع الاقتصاد المصري عام 1969 أن يحقق زيادة في فائض الميزان التجاري ــ لأول وآخر مرة فى تاريخ مصر ــ بفائض قدرها 46.9 مليون جنية بأسعار ذلك الزمان.. وتم وضع حدود دنيا وعليا للرواتب والمرتبات، مراعاة للمساواة والعدالة الاجتماعية بين أفراد الشعب، فلا أحد يعيش برفاهة وبذخ، ولا أحد يعيش دون مستوى الكفاف.
كان اقتصاد مصر أقوى من اقتصاد كوريا الجنوبية
رحل واقتصاد مصر أقوى من اقتصاد كوريا الجنوبية، ولدى مصر فائض من العملة الصعبة تجاوز المائتين والخمسين مليون دولار بشهادة البنك الدولى، وبلغ سعر الجنيه الذهب 4 جنيه مصر..ولم تكن عملة مصر مرتبطة بالدولار الأمريكى، بل كان الجنيه المصرى يساوى ثلاثة دولارات ونصف، ويساوى أربعة عشر ريال سعودى بأسعار البنك المركزى المصري.. رحل الزعيم الإستثنائي ولم تكن هناك بطالة، ولم تكن هناك أزمة تعيينات أو وسائط أو رشاوي.. وربما كان الأهم ، والأكثر أهمية ، أن مصر لم تسمع في حياته عن «فتنة طائفية».
قيمة وأهمية موعد مصر والأمة العربية مع التاريخ.. تختصرها كلمات زعيم الهند التاريخي «نهرو» قائلا « إن ما أحبه فى ناصر انه يتعلم دائما.. أنه يتميز بصدق مطلق ونهمه متصل للمعرفة، وشجاعته حاضرة، وهذا ما جعله رجل الفكر والعقل والفعل المؤهل لقيادة امة فى حقبة حاسمة »..وهو ما يؤكده الكاتب الهندي، ديوان برندرانات، بأن « التاريخ المعاصر للعالم العربى وخاصة مصر وتاريخ حياة ناصر لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، إن ارتباط عبد الناصر بتراب هذا الوطن وتاريخه هو الذى صاغ صورته الجماهيرية أما التزامه بقضايا الوطن ومسارعته بالدفاع عنها فقد كان وسيلته فى توصيل هذه الصورة إلى شعب الأمة العربية فى كل مكان» .