أحمد الخميسي يكتب: كنيسة امبابة.. الحرائق التي توحدنا
لقد أثبتت الوحدة الوطنية المصرية أنها مثل الكرة كلما ضربوها لأسفل قفزت إلى أعلى. وكل المحن التي تمر بها مصر أحيانا، مثل حادثة كنيسة إمبابة، لم تكسر هذه الوحدة الصلبة، بل زادتها وهجا وشبابا وجمالا، ورسختها في الحقول والمصانع والجامعات وفي القصائد والأحلام والتمتمات الخافتة في الصلاة. ولا أتخيل طعما للحياة من دون أصدقائي اسحق حنا، وأبانوب نعيم، وحسام، والمهندس ماجد، وأمير زكي، ونورا، ومن قبلهم يوسف الشاروني، ولا أتخيل أيامي من دون مكالماتهم الهاتفية ومزاحهم ومواعيدهم غير الدقيقة. ألم يقل البابا تواضروس الثاني منذ عام في حواره مع قناة "اكسترا نيوز" : " لو حرقوا الكنايس سوف نصلي مع أخوتنا المسلمين في المساجد ولو حرقوا المساجد سوف نصلي معهم في الشارع"؟. ألم يتبرع محمد صلاح بثلاثة ملايين جنيه لترميم الكنيسة؟ ألم يهب محمد يحيي من سكان إمبابة إلى انقاذ الكثيرين من أشقائه المسيحيين غير مبال بالنيران والدخان حتى أصيب باختناق ونقل إلى المستشفى؟. ألم يختلط دم غريب عبد التواب في معارك أكتوبر 1973 بدماء شنودة راغب، واستشهد الاثنان متعانقين؟. تخرج الوحدة الوطنية كل مرة من كل محنة أقوى، وأجمل، وأكثر شبابا وفتوة وقدرة على التجدد والحياة. ألم يكتب طه حسين في كتابه " الثقافة المصرية" عام 1938: " لعل الاختلاف بين المسلمين والأقباط في الدين أن يكون أشبه بهذا الاختلاف الذي يكون بين الأنغام الموسيقية فهو لا يفسد وحدة اللحن وانما يقويها ويزكيها ويمنحها بهجة وجمالا"؟
كان مؤلما إلى أقصى درجة أن تتطلع إلى صور الأطفال الأبرياء الذين ذهبوا ضحية الحريق، من بينهم ثلاثة صغار لأم واحدة. وفي مصر تقول الأم عن ابنها أو ابنتها : " ضناي"، أي تعبي ومشقتي وجهدي كله. إلا أن الحريق المؤسف التهم الأخشاب وحدها وعلق سواده بالجدران، ولم تقترب ألسنته قط من صلب العلاقة بين المصريين، ولم يعلق سواده بالنفوس. ورأينا كيف كانت الأمهات المحجبات يقفن بجوار الأمهات القبطيات يبكين معا بالدمع الغزيز أطفال الجنة وملائكتها. لم تفلح إذن جهود الجماعات المتطرفة الفكرية في النيل من الوحدة الوطنية، ولا فلحت في طمس هذه الجوهرة ، حتى ليجوز القول إن مصر هبة هذه الوحدة الانسانية الأخلاقية التي لا تتمسك بتفاصيل الطقوس الدينية قدر تشبثها بجوهر الدين، فتدعو وتنادي بالصلاة معا، في المساجد أو الكنائس، كما كان الأب جرجيوس يلقي خطبه في المساجد خلال ثورة 19، وكما كان الشيوخ يلقون خطبهم في الكنائس. لقد خلقت آلام كنيسة إمبابة فرحة أخرى، وإن كانت فرحة دامعة، فرحة أننا معا، لاشيء يفرقنا، وأن كل محنة تضاعف من شباب مصر، وآمالها، وقوتها، وتغذي قصائدها بكل المعاني الجميلة التي نستند إليها ونحن نتقدم بأحلامنا إلى الأمام.