أحمد الخميسي يكتب: سعد عبد الرحمن .. العتاب والغفران
حتى 12 فبراير كان الشاعر سعد عبد الرحمن ينشر صوره في فيس بوك مبتسما بكامل صحته بجوار أصدقائه، وبعد عشرة أيام تقريبا في 25 فبراير توفي سعد من دون إعلان أو كلمة عن مرض أو جراحة أو أزمة صحية مفاجئة. رحل خفيفا، مثلما قضى حياته كلها خفيفا. تجنب سعد عبد الرحمن في رحيله الأضواء والضجيج كما فعل على امتداد حياته التي عاشها يعمل بصمت وعفة نفس، وفارقتنا النظرة الطيبة التي أطل منها عتاب مهذب مشبع بالغفران لم يفصح عن جوهره يوما. غادرنا كأنما نسمة كانت تدور حولنا واختطفها الهواء فجأة، فلا أنت تصدق ولا أنت تعقل. التقيت بسعد عبد الرحمن للمرة الأولى بالمصادفة من نحو عشر سنوات، وكان في حينه رئيس هيئة قصور الثقافة. حدث ذلك حين كان أحد الأصدقاء على موعد معه، وقال لي:" سألتقيه لعشر دقائق ونواصل طريقنا". وفضلت حينذاك ألا أدخل مكتب رئيس الهيئة لنفور غريزي في نفسي من المناصب الرسمية. جلست في الخارج حتى خرج صديقي يرافقه سعد عبد الرحمن الذي لمحني فأقبل علي يصافحني وأصر أن ندخل من جديد لنشرب قهوة. في ذلك الوقت كان سعد قد أصدر عددا من الدواوين الشعرية وعددا كبيرا من كتب الدراسات الأدبية، لكنه طوال جلستنا لم يشر إلى نفسه أو شعره أو كتبه بحرف ولم يقدم لي ديوانا من تأليفه! أدهشني ذلك لأن عادة الكتاب أن يدوروا حول أنفسهم وأخبار كتبهم، بل إنه على العكس من ذلك سألني باهتمام عن مقالات كنت أنشرها في أخبار الأدب، وقال لي:" لماذا لا تحضر لنا دواوين الوالد عبد الرحمن الخميسي لننشرها هنا في الهيئة؟". لم أذهب بدواوين والدي إلى الهيئة، لكن تواضع سعد عبد الرحمن، ونكرانه ذاته، جعلاني أفكر أنه ليس موظفا في الأجهزة الثقافية يتصور بحكم منصبه أنه شاعر، لكنه شاعر بالفعل ساقته الظروف إلى الوظيفة. أسرتني شخصيته المحبة، المهذبة، والنظرة الطيبة التي يطل منها عتاب مهذب على القدر أو البشر.
رحل سعد عبد الرحمن قبل ان يتم عامه السبعين، وترك خلفه حكايات كثيرة وقد كان رئيس هيئة قصور الثقافة الوحيد الذي قرر الاجتماع بالمثقفين والأدباء فور توليه منصبه، لكي يستشيرهم في خطة الهيئة، وطالبهم بدعم الهيئة بكتبهم ومقترحاتهم. وترك سعد حكايات كثيرة عن نزاهته، وتعففه، منها أنه كان يدفع من جيبه في مؤتمرات الهيئة مكافآت الشباب بلا خصومات، ثم يقوم بتحصيلها لاحقا بعد الخصم منها. وكان سعد أحد أعمدة النهضة الأدبية في مسقط رأسه أسيوط، وظل يكافح وهو رئيس الهيئة حتى حل أزمة قصر ثقافة المحلة القائم في مبنى اثري حاول البعض أن يستولوا عليه بكل الوسائل، وقد ترك الشاعر الراحل العديد من الكتب منها ثلاثة دواوين شعر بعناوين "حدائق الجمر"، و"النفخ في الرماد"، و"المجد للشهداء"، وكتاب بعنوان "التعليم المصري في نصف قرن"، وكتب أخرى تتجاوز عشرين اصدارا متنوعًا ما بين أعمال فكرية ودراسات عن الآداب. وفي العام الماضي 2022 نشر سعد ثلاثة كتب جديدة هي : " الموسيقا والغناء في حياة العقاد" ، و " مقالات قصر الدوبارة تاريخ المصريين"، و" نزيف الكمان" ديوان شعر،ولم يمهله الموت المفاجئ لكي يستلم نسخ كتابه الصادر للتو: " في مديح الهامش" عن مدينته أسيوط. عاش خفيفا، ورحل خفيفا، وترك وراءه جبلا من المعرفة ونموذجا لشخصية إنسانية نادرة المثال، أشبه ما تكون بجهاز انتباه لحاجات الآخرين. تبقى في نفوس من أسعدهم الحظ وتعرفوا إليك.