أحمد الخميسي يكتب: الكتابة بالشبه في أدب الشبان
في جامعة موسكو كان يدرس معنا طالب كوبي ظريف يقهقه طوال الوقت اسمه كارلوس، وفي إحدى حصص اللغة الروسية تطرق الحديث إلى السيد المسيح، وأراد كارلوس أن يشير إلى صلب المسيح لكنه لم يكن يعرف فعل " صلب" بالروسية، فرفع ساعديه وأحاط بهما وجهه، وراح باليمنى يدق في الهواء على كفه اليسرى ويفعل العكس. أدركنا أنه يقصد صلب المسيح، فضحكت المعلمة وضحكنا جميعا. هكذا عندما غابت الكلمة لجأ كارلوس إلى وصفها، أو تمثيلها، وعدد غير قليل من الأدباء الشبان يقوم بذلك، أي يصفون الكلمات لأنهم لا يعرفونها، وعلى سبيل المثال فإنهم يكتبون" العشق بشدة"، لأن الكاتب لا يعرف كلمة " هيام" التي تشير إلى نفس المعنى بكلمة واحدة، وهكذا فإنهم عمليا يصفون"الهيام"ويفككون الكلمة إلى عدة كلمات، كما يفعلون حين يكتبون عن شخص " مكروه للغاية" بدلا من كلمة " بغيض"، فيقعون في وصف الكلمات وتفكيكها بدلا من الغوص في اللغة، أو يقعون في الصور النمطية المستهلكة، ويكتبون - على سبيل المثال–" تدفق النور إلى الحجرة "، وهي صورة لا تنقل حالة محددة ولا تعكس علاقة الكاتب بما حوله، بينما يجعل جيمس جويس في قصته " الموتى" الصورة محددة، تكسب اللحظة تفردها حين يقول:" إنساب ضوء من مصباح الطريق في شكل سهم طويل من إحدى النوافذ إلي الباب". والكتابة بوصف الكلمات أو الاستعانة بالصور النمطية التي تصلح لكل لحظة وكل مكان، هي كتابة بالشبه، أي أن الكاتب يحوم حول المعنى والصورة ولا يجسدهما. وفي الحالتين يرجع الأمر إلى ضعف علاقة الكاتب باللغة التي جاهد نجيب محفوظ لتملك ناصيتها حتى أنه قال: " إن أكبر صراع خضته في حياتي كان مع اللغة العربية". ذلك أن المقصود بالتمكن من اللغة ليس التمكن من النحو وقواعد اللغة، رغم أهمية ذلك، بل التمكن من التعبير، الذي لا يتأتى إلا بالتشبع باللغة، أوزانها، ومفرداتها، وصرفها. والمقصود باللغة القدرة على التعبير، وتفادي الكتابة بالشبه، وتجنب الصور النمطية من نوع "القمر ساطع في السماء" التي لا تجسد لحظة محددة، بل تصلح لكل حالة ومع كل شخصية وفي أي وقت. وبهذا الصدد قال أنطون تشيخوف:"الأفضل بدلا من تلك الصورة النمطية أن تريني مثلا كيف يسطع القمر على شظية زجاج على الرصيف". وبهذا الصدد تقول ايزابيل اللندي:" يمكن لقرائي أن يدهشوا عندما يعرفون كم أنني انتقائية في اللغة, وكيف أنني أقرأ الفقرة بصوت عال، فإذا كانت هناك كلمات مكررة فإنني أحذفها وعندما أجد أن كلمة ما لا تتطابق والمعنى الذي كنت أرمي إليه فإنني أستعين بالمعاجم.. ذلك أنه من المهم جدا بالنسبة لي أن أجد الكلمة المحددة التي تخلق الشعور أو تصف الحالة. نعم .. أنا انتقائية جدا في هذا الجانب لأن الكلمات هي المادة الوحيدة التي نمتلكها". وتكرر نفس المعنى الروائية الأميركية كيت ريد قائلة:" يفقد القراء ثقتهم بالكاتب غير المتمكن من قواعد اللغة ، فإن كان يخطئ في استخدام قواعد اللغة فكيف يثقون بما يقوله؟. فإذا كنت غير متأكد من الاستخدام اللغوي لبعض الكلمات، دقق ذلك في المراجع المختصة". وعلى طريق تملك ناصية اللغة مازال البعض يذكر معارك خاضها الكثيرون منها معركة د. محمد مندور عام 1942 مع الأب" أنستاس الكرملي" حول لفظ : عثر ب ، و عثر على! ولا يدعو أحد إلى هذا الانهاك بحثا عن الأدق:" عثر ب " أم " عثر على"، وفي المقابل لا تجوز الكتابة بالشبه ووصف الكلمات بدلا من العثور عليها.