أحمد الخميسي يكتب: أدب لا يخاطب أحدا
ولى الزمن الذي كانت تصدح فيه الأغاني " فوق التل .. تحت التل .. اسأل عنا الريح تندل "، وترنيمة: " خلي السلاح صاحي " ، ودخلنا منذ ثلاثين عاما مرحلة أخرى في الأدب والثقافة أصبحنا في ظلها نجد العام الماضي سبع عشرة رواية تدور كلها حول اليهود الذين يقع العرب في غرامهم، و يستدرون الدموع شفقة على مصائرهم، وكل ذلك التلفيق الذي يستهدف" أنسنة " الوحش، وتقريبه إلى النفوس، وعقد الصلح مع الغزو والقبول بالاحتلال. وعلى مدى ثلاثين عاما أو أكثر منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد في 1978 جرى العمل على قدم وساق لهدم كل مرتكزات الأدب الوطني، وكسر كل ما هو قومي، وواقعي بل وإنساني في الفن والأدب والتاريخ، وبذل كل الجهود بالمال والجوائز لهدم البنى المعرفية وأركان الذاكرة القومية وتلطيخ بطولات المواجهة. ولى عصر " سليمان الحلبي" التي كتبها ألفريد فرج وعرضت على المسرح القومي موسم 1965- 1966، وداهمنا زمن آخر، بمفاهيم تستهدف كسر الوعي الوطني، والتخلي عن مفاهيم محورية مثل ارتباط الأدب بقضايا المجتمع، والالتزام، وأن الأدب تعبير عن الواقع، وتطوير له، وبدلا من كل ذلك يقدمون لنا، ويروجون لبديل آخر، وعوضا عن حرية الوطن، يقدمون لنا. " الحرية الفردية" غير المرتبطة بحرية الوطن أو بحرية الاخرين بصفتها المثال المنشود. الحرية التي تفضل الأديب الإسباني "ماريو بارجاس يوسا" بتعريفها في روايته مديح الخالة قائلا: " كل حركة تسعى لتقديم مصالح جماعية لطبقة أو سلالة أو أمة على سيادة الفرد تبدو لي مؤامرة لفرض المزيد من القيود على "الحرية الفردية"، هذه الحرية الفردية التي تعلو فوق أي اعتبار وطني، وتغفل عمدا الصلة المؤكدة بين حرية الفرد وحرية الوطن. ويمضي" يوسا " فيحدد بدقة الشعار الذي ينبغى للحركة الثقافية أن تتبناه حين يقول على لسان بطل روايته" دفاتر دون ريجو": " لا تصل الحرية في مجالها الواسع إلا في نطاق الفرد، موطنها الدافئ الذي تجسدينه حضرتك ببظرك المحارب وأجسده أنا بقضيبي"! ومن أجل اعتناق هذه النظرة يتم اغواء الحركات الثقافية ونشر مراكز ثقافية متمولة وتدبيج المقالات واصدار الكتب، ولا عجب إذن أن يفوز "يوسا " بجائزة نوبل في الأدب عام 2010، ذلك أن الغزوة الاستعمارية الأمريكية واسعة النطاق تدرك تمام الادراك أنه لا يكفي "اقتلاع الأشجار" إذ لابد من" اقتلاع الأفكار"، وجنبا الى جنب مع " هدم البيوت" ينبغي هدم ركائز المقاومة في الوعي الأدبي والثقافي لكي يضمن المحتل بقاءه طويلا، ومع تمزيق العراق وتدمير ليبيا، وسوريا، ولبنان، واليمن، وتقسيم السودان وإشعال الحرب فيه، كان لابد للاستعمار على مستوى الفكر أن يدمر ويمزق في الأدب والثقافة كل ما هو وطني، وكل ما يتطلع إلى التحرر من التبعية والاحتلال. هكذا على مدى ثلاثين عاما جرى بدأت بواسطة المقالات والجوائز والاغواء بالشهرة فصل العمل الأدبي عن دوره الاجتماعي، مع ازاحة الصلة المؤكدة بين الأدب والعالم الموضوعي الخارجي. وفي الأدب أخذت تتصدر المشهد النزعة " الشكلانية" التي ترى أن دور الأدب في المقام الأول والأخير هو العناية بالبناء المبتكر وطرائق توليد النص والأسلوب والأشكال السردية، وباختصار أصبح دور الأدب التركيز على التقنية بكافة وسائلها. وجرى تعميم تلك النظرة الفلسفية العدمية التي ترى أن تغيير الواقع والعالم أمر مستحيل، وأن الحقيقة الوحيدة الباقية هي ذات الكاتب الذي تسوقه نرجسيته إلي أن يصف بأدق التفاصيل أدنى انفعالاته وأتفه تجاربه الجنسية وذكرياته الأشد سطحية لأنه بقدر ما يكون العالم منفرا بقدر ما تكون الذات جذابة! وهنا يغدو من السهولة بمكان العبور من" الشكلانية" إلي "العدمية"،أوالعكس ، أو الوقوع في فخ الحالتين معا. نلاحظ أيضا ذلك الانتشار الواسع لنزعة الادعاء بأن " الأنا الذاتي" هو الكائن الوحيد الموجود!
كل هذه الاتجاهات التي انفقت لترويجها الملايين عبر المراكز الثقافية ودور النشر المتمولة قطعت الصلة بين العمل الأدبي والمجتمع، وبرزت أقوى ما يكون في مدارس مثل البنيوية والتفكيكية التي قامت على بتر العلاقة بين الأدب ودوره الاجتماعي فأصبح العمل الأدبي:" معروضا باعتباره موضوعا لغويا مغلقا، مكتفيا بذاته، مطلقا.. بصفته مجرد علاقات بين أجزاء العمل الفني وعناصره" وكأن: " رفض تسخير الأدب والفن للأيديولوجيا يستلزم بحد ذاته تلاشي كل صلة بين العمل الفني والعالم". وهنا تصبح " الوسائل الأدبية" غاية مقصودة بحد ذاتها. وتنحي" التقنية الأدبية " الهدف من العمل الأدبي، وتطيح بالصلة المؤكدة بين الأدب والعالم الخارجي وقضاياه، وهي الصلة التي كانت مؤكدة بقوة منذ أن ظهرت. " النظرية الكلاسيكية للشعر" عند أرسطو الذي اعتبر الأدب "محاكاة للطبيعة"، ووظيفته حسب هوراتيوس هي "المتعة والفائدة" ، لكن الزمن الذي نحياه زعزع هذا الفهم العميق بالتركيز على صورة الفنان المبدع الذي ينتج أعمالا متناسقة منغلقة على ذاتها تكتسب أهميتها من اتساقها وليس من علاقتها بالحياة، وبالتركيز على أن دور الفنان ليس الإفادة والإمتاع ، بل إبداع الجمال الذي لا يفضي لشيء يتجاوز ذاته . ومع ذلك فإن مفكرى القرن 18 حين جعلوا من الجمال معيارا أساسيا للحكم على الأدب ، لم يسعوا إلي قطع الصلة بين الأدب والعالم، لكنهم فقط حولوا مركز الثقل من " المحاكاة " إلي" الجمال"، من دون قطع الارتباط بين الأدب والعالم. لكن القطيعة بين الفن ودوره الاجتماعي وصلته بالحياة والواقع تمت في مطلع القرن العشرين مع رواج الدعوة القائلة بأن هدف الفن الحقيقي هو:" إبداع الجمال" بكل ما يعنيه ذلك من استبعاد أي بعد معرفي للعمل الأدبي، بحيث أصبح نموذج العمل الفني هو ذلك الذي حدده كارل فيليب بقوله:" لا ينبغي للعمل الفني أن يتحدث عن شيء خارج عنه ، لا ينبغي أن يتحدث إلا عن نفسه ، وكينونته الداخلية، ينبغي أن يصير دالا بنفسه". كل هذه الظواهر تغمر الأدب الحديث، وتسوقه إلى العدم، وانتفاء دوره، وقطع الصلة بينه وحتى بين القراء. والنتيجة أننا لم نعد نرى أو نقرأ عملا يضع القضايا العامة في مركز اهتمامه، لم نعد نقرأ رواية مثل " الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي، ولا رواية مثل " الحرام" ليوسف ادريس، وتصلنا فقط شظايا أدب مبتور، معزول، يشبه منشدا يغني لنفسه مستعذبا صوته.