إيــمــي.. قصة قصيرة..أحمد الخميسي
كانت إيمي صغيرة الحجم، دقيقة، قصيرة، نحيفة، وجهها مستطيل مضغوط من الجانبين كأنه شمعة وحول رأسها كان ثمة نور خفيف، عيناها واسعتان، كعيون الإيرانيات، معبأة بسواد ساحر عميق، يعلوهما حاجبان مرسومان بدقة كهلالين غاية في الجمال. لكن إيمي لم تكن تنظر مباشرة إلي عيني من يحدثها إلا نادرا وللحظة قصيرة تعود بعدها تطرق برأسها وتحني كتفيها النحيفتين المضمومتين لأسفل وهي تضفي على نفسها هيئة من ينصت باهتمام وأدب. لم تكن تنظر لأحد مباشرة، بل ولم تكن تنصت لشيء. اكتشفت ذلك فيما بعد، حين كنت أحدثها ذات مرة، وتوقفت عن الحديث أتأملها متشككا في أنها تسمعني، ثم لزمت الصمت ناظرا إليها وهي مازالت تهز رأسها كمن ينصت، وعدت أكلمها لكن في موضوع آخر دون أن يثير ذلك أي رد فعل لديها. وحتى حين كانت إيمي تنهض وهي تضم طرفي الجاكت الخفيف، وتمد يدها مودعة، كنت أشعر أنها لا ترى أي شيء حولها. كانت مستغرقة في نفسها طوال الوقت تحاول أن تنصت في أعماقها الى غمغمة بعيدة، صدى خافت لصوت مهشم يلوح ويختفي. حين كانت إيمي تأتي إلي في أيام الشتاء كان أول ما تطلبه أن أغلق بطارية التدفئة لأنها تصدر أزيزا خفيفا، وفي أيام الصيف ترجوني أن أغلق جهاز التكييف لأن الصوت الضعيف جدا الصادر عنه يقلقها، ثم كانت تسألني أن أغلق جهاز التلفزيون وأحكم إغلاق النوافذ لأن الأصوات القادمة من الشارع توترها، ثم تجلس بعد أن أنفذ كل ما طلبته ترهف السمع، وتقول: هل هناك جهاز ما يعمل في المطبخ؟ أقول: لا. تقول: لأنني أسمع صوتا. أقول: ربما من عند الجيران. وفقط عندما تختفي كل الأصوات تجلس إيمي وتهدأ وتطرق برأسها تنصت في أعماقها لغمغمة من عالم آخر، تنصت بكل كيانها مثل شخص غائب في صلاة، كأنما تبتهل إلي الغمغمة الخفية أن تخرج من الضباب.
قلت لها مرة ونحن نتغدى في أحد المطاعم: أنت يا إيمي لا تسمعين، لا تنظرين، لا تبصرين. لست هنا. ضحكت ضحكة مسحوبة: ما الذي تقوله؟ كيف أعيش إذن؟ قلت لها: تتركين هذا الانطباع يا إيمي. سكتت ورأسها مطرق ثم قالت دون أن تنظر إلي: انني أتذكر أبي الذي توفي مبكرا، كان أغلى ما في حياتي. يخيل إلي طيلة الوقت أنه همس لي بشيء لكني لم أسمعه جيدا حينذاك أو سمعت ولم أفهم لأني كنت صغيرة في السادسة وأنه مازال يريد لكلمته أن تصلني، وحتى الآن أتحدث إليه، أستأذنه قبل أن أقوم بهذا العمل أو ذاك، أطلب موافقته، وحينما أخطئ أو أذنب أسأله بدموعي في الليل أن يغفر لي. أتساءل أحيانا ألم يحن الوقت لكي يتركوه يرجع إلي عالمنا بعد أن بقى هناك سنوات طويلة جدا؟ ألا يكفي كل هذا الزمن؟
كنت متيما بإيمي أحاول أن أنتهز الفرصة لأعترف لها بحبي، فأمسكت بيدها ونحن جالسان وقلت لها بصوت مرتجف: إيمي.. أنت ترجين كل كياني رجا متصلا من دون لحظة واحدة ألتقط فيها أنفاسي. ما أن أقترب من أي شيء حتى أكتشف أنني أحبك، حين أتجه الى المطبخ وأضع إبريق الشاي على النار أجدني أحبك. حين أستلقي لبعض الوقت على السرير أجدك ملء قلبي، عندما أرفع سماعة التلفون، وحينما أخلع قميصي، وأنا أفتح باب الشقة، وحتى يدي وهي تغسل وجهي تذكرني أني أحبك. كأن العالم اختزل وجوده إلي مجرد سهم كبير يشير إليك. قولي لي كيف يمكن لكل ما ألمسه أن يتذكرك وأن يجعلك أمامي؟
أمسكت إيمي بيدي ودعكتها بقوة وهي تنظر بعيدا وقالت: نعم. هذا هو الحب. أنا أعرفه.
افترقنا على أن نلتقي بعد ساعتين في ميدان التحرير ثم نتجه بعد ذلك لمشاهدة عرض مسرحي. كان موعدنا في السادسة مساء في الساحة الممتدة أمام مبنى المجمع الضخم. لكن ازدحام الطرق أخرني عنها نحو ربع الساعة، وحين بلغت الميدان وجدته يضج بالنداءات وضوضاء السيارات وصياح المارة. شاهدت إيمي من بعيد، رحت أخطو في اتجاهها بخطوات سريعة، وفجأة رأيتها تتلفت متطلعة إلي الجو حولها وهي مذعورة ثم أخذت تلوح بيديها كأنما تصد رصاص أصوات ينهمر عليها من كل ناحية، وأمسكت رأسها بيديها، وضغطت على إذنيها بقوة، وقد تشنج وجهها. هرولت ناحيتها، كانت تترنح نحيفة رقيقة كأنها بقية حب، واستولي على فزع لم أعرفه من قبل. لحقت بها قبل أن تهوي على الأرض، أمسكتها من كتفيها وأنا أصيح فيها: إيمي. هززتها بقوة، ففتحت عينيها. هتفت باسمها ثانية: إيمي، فحدقت بي بنظرة مثل الشهقة وتمتمت بحرارة غير مصدقة: جئت!!
تلك كانت المرة الوحيدة التي رأتني فيها إيمي!