مصراوي 24
مصراوي 24

د. عبد المنعم سعيد يكتب: مصر تصالح نفسها !

-

هذه المرة لم تكن «مصر تتحدث عن نفسها» كما فعل شاعر النيل حافظ إبراهيم فى القصيدة التى غنتها أم كلثوم حينما استحضر التاريخ كله لكى يكفى الكلام عند التحدي؛ ولكنها كانت تعقد مصالحة تاريخية مع نفسها بلا تفاخر ولا شكوي. الحدث جاء مع ذكرى ثورة 23 يوليو 1952، والمناسبة كانت افتتاح قاعدة الرئيس محمد نجيب العسكرية التى قيل فيها إنها من أكبر القواعد المصرية، إن لم تكن أكبرها على الإطلاق، بل هى الأكبر فى الشرق الأوسط. وكان من الممكن أن يمر اليوم كما مر فى سنوات وعقود سابقة، فيه التحية للثورة التى كانت، وللزعيم جمال عبد الناصر الذى ذهب، وكل ذلك مع عرض الأفلام المقررة فى كل عام، ففى مصر فإن لكل مناسبة قولا، ولكل حدث فيلمه. ولكن الرئيس السيسى له طريقته فى المفاجأة، وفتح ملفات جريئة ساد الظن أن بقاءها مغلقة ربما يبقى الفتنة نائمة، فعل ذلك من قبل عندما اتخذ قرارات اقتصادية شاح عنها رؤساء سابقون، وعندما فتح ملف التفكير الديني، وعندما زار الكاتدرائية ليلة عيد الميلاد. هذه المرة لم يفتح ملف الرئيس الأول لمصر، أول المصريين فى تولى السلطة الجمهورية، وإنما وضع اسمه على قاعدة عسكرية تليق بقائد عظيم. 

قصة محمد نجيب فى التاريخ المصرى فيها الكثير من التجليات الدرامية سواء فيما تعلق بالوطن كله، أو ما تعلق بإنسان وصل إلى قمة المجد، ثم سقط إلى سفح كهف ظل محبوسا فيه سبعة عشر عاما. قصته بدأت مع الثورة الأولى حتى قبل أن تقوم عندما انتخبه الضباط قائدا لناديهم اعترافا بفضله، وعلمه العسكري، وبطولته فى حرب لم ننتصر فيها. وعندما تقدم «الضباط الأحرار» إلى صفوف خلع الملك حصل من المصريين، والسودانيين أيضا، على محبة وشعبية طاغية. ولم يمض عامان على سطوع نجمه حتى كان ملتبسا مع ما عرف بعد ذلك بأزمة مارس، وبعدها بشهور، كان نصيبه تحديد الإقامة قرابة عقدين كانت الأقرب لسجن موحش. لم تكن هناك تهمة محددة، قيل إنه لم يكن القائد، وقيل إنه انتحل صفة ثورية، وقيل إنه تواصل مع القوى الرجعية لكى تعود الديمقراطية (!)، وقيلت أشياء أخرى كثيرة، ولكن أيا منها لم يكن كافيا لاتهامه ومحاكمته. فقط جرى استبعاده، وإغلاق الباب عليه فى فيللا تركت بعد ذلك لكى تتآكل وتنهار وتتكاثر فيها الهوام والحشرات والفئران. 

كان الرئيس السادات أول من رفع الغطاء عن الرجل بالإفراج عنه، ولكن ذلك لم يعن العودة للحياة العامة؛ ورغم أنه استعاد بعضا من تاريخه إلا أنه ظل قبل وبعد وفاته شخصية غامضة، وملفا لا يريد أحد أن يفتحه. كانت القصة عن نجيب قد تلخصت فى رواية ناصرية قوامها أن «الضباط الأحرار» كانوا فى حاجة إلى شخصية عسكرية قيادية ـ لواء ـ لكى يقنعوا الشعب والجيش. لم يكن هو أول الخيارات ولا آخرها، وإنما كان مجرد اختيار لدور قام به ليلة الثورة، وبعدها لم يكن له فى القرار نصيب. فيما بعد ظهر أن القصة لم تكن حقيقية فى مجملها، وبالتأكيد غير دقيقة، وكان فى تاريخ الرجل ما هو مقدر وشريف، وكان خروجه نوعا من مكائد القصر أكثر منه خروجا على ثورة لمصلحة الثورة المضادة. فى كل الأحوال كان وصار نجيب جزءا من تاريخ مصر الذى أهيل عليه التراب عمدا مع سبق الإصرار والترصد؛ كما حدث تماما مع التاريخ الذى سبقها. 

لحسن الحظ أن الشعب المصرى له طريقته فى طرق أبواب التاريخ، ومنذ أعوام كانت المفاجأة عودة الوعى بالملك فاروق الذى ظهر أنه لم يكن بالسوء الذى صوروه عليه؛ واليوم يعود محمد نجيب مرة أخرى إلى الضوء الذى حرم منه لسنوات طويلة. وكان وضع اسم الرجل على القاعدة العسكرية مصالحة مع التاريخ المصرى ربما تخلصنا من آثام ربما آن الأوان للتخلص منها، ليس فقط فيما تعلق بأول رئيس للجمهورية، وإنما ما تعلق بكل من لحقوه فى قيادة مصر. فالتاريخ فى عمومه له طرائق غريبة، وفى مصر فإن طرائقه أغرب لأن القيادة تصل يوما إلى مراتب النبوة، ومن بعدها يكون حالها مثل المجرمين؛ وفى يوم يأتى حتما يكون الخلاص ويستقيم الميزان ويستوفى العدل. لا توجد نية هنا لمراجعة ما حدث لكل رؤساء مصر، وملوكها أيضا، بل وزعمائها الذين لم يسلموا من لعنة ومجد التاريخ؛ ولكن مستقبل مصر سوف يتوقف دائما على رؤيتها لمتى بدأ تاريخها، على الأقل فى العصر الحديث. فإحدى الإشكاليات الكبرى فى كتابة التاريخ المصرى أن ثورة 23 يوليو باتت هى الميلاد، ويومها صار هو اليوم القومى للدولة، ما قبلها ضاع، وما جاء بعدها أضيفت أيامه لأيام الإجازات. اقتراحى المحدد بمناسبة المصالحة التاريخية مع الرئيس محمد نجيب، أن توجد المصالحة التاريخية مع تاريخ الدولة المصرية الذى يجعل نقطة البداية فى العصر الحديث مع مولد المملكة المصرية واعتراف العالم بها، ليس كولاية فى الإمبراطورية العثمانية وإنما كدولة مستقلة ذات سيادة لها مؤسساتها الدستورية. 

ثورة 23 يوليو 1952، وثورة 25 يناير 2011، وثورة 30 يونيو 2013، كانت كلها لحظات استثنائية فى تاريخ الدولة المصرية؛ ولكن أيا منها لم يكن اللحظة التى ولدت فيها الدولة وقام كيانها. ثورة 1919 وحدها هى التى قادت إلى مولد المملكة المصرية، وعندما قامت الجمهورية كان ذلك ليس تغييرا فى الدولة، وإنما فى نظام الحكم. الاحتلال البريطانى ومن بعده الاحتلال الإسرائيلى لم ينه وجود الدولة، وإنما فجر نضال الأمة من أجل إجبار الإنجليز، والإسرائيليين، على الجلاء. مصالحة مصر مع تاريخها يعطى للمؤرخين، الفرصة للتعلم من تاريخ مصر دون تحيز أو انحراف، ومن يعرف ربما يكون ذلك بداية كتابة تاريخ مصر القادم أيضا. 

نقلا عن صحيفة الأهرام