مصراوي 24
مصراوي 24

 د. عبد المنعم سعيد يكتب: البداية السياسية الجديدة

-

ما جرى فى مصر خلال الفترة القصيرة الماضية عكس إلى حد كبير عقم الطبقة السياسية فى مصر، فهى لم تكن فقط عاجزة عن تقديم قيادات جديدة ومرشحين جدد، وإنما كانت أيضا غير قادرة على ترجمة ما جاء فى الدستور والقوانين إلى واقع. وبقدر ما كانت هناك قدرة على التعلم من دروس الماضى فى مجال الاقتصاد حيث اخترنا فى النهاية أن نسير كما يسير العالم، فإنه فى مجال السياسة ما زلنا أسرى الماضى ومآسيه وما زالت كثرة منا تعتبر نفسها تعيش حالة «نضالية» لم يغيرها لا خروج المحتلين ولا فترة سبع سنوات أنتجت دروسا كثيرا لفكرة الثورة. على أى حال فإن الخروج من الحالة السياسية المقفرة التى انتهينا إليها طرحت ثلاثة مخارج لما نحن فيه من سياسة. أولها أن نترك للزمن أن يتولى الأمر، والزمن هو مستجيب بطبعه لتغيرات تكنولوجية تزيد من المعرفة والتعلم من تجارب أخري، وهو الفترة الزمنية التى سيزيد فيها عدد المصريين على مائة مليون بعشرة ملايين إضافية، وفى كل الأحوال فإن هناك نقطة زمنية حرجة تنتج فى النهاية قيادات جديدة على أبواب الانتخابات الرئاسية عام 2022. وثانيها أن الدولة فطنت بالفعل إلى حالة الفراغ السياسى الحالية والناجمة عن الإطاحة بدولة الحزب الواحد أو القائد،،وما قيل عن «تجريف» الطبقة السياسية المصرية إما بفعل أنظمة «بائدة» أو ثورات لا يعرف فيها أحد ما يريد. والنتيجة هى إعداد جيل من القادة من خلال الحوار فى مؤتمرات شبابية ومعاهد للقادة وأكاديميات لإدارة البلاد. وثالثها، وهو ما نطرحه هنا، أن تكون «المحليات» هى طريقنا إلى بزوغ طبقة سياسية جديدة لا تخرج من الماضى الذى راح، ولا تكون مدمنة للانقسام السياسي، ولاترى فى الحكم أو المعارضة نضالا سياسيا من نوع أو آخر، وإنما طريقا للرفعة والتقدم عند قيادة الدولة.

نقطة البداية هنا أنه بعد فترات الثورات واللحظات الاستثنائية بعد الحروب فإن إعادة بناء الدولة يبدأ من أسفل، حيث يكون للتقسيمات الإدارية للدولة دور فى إعادة النظر فيها، والتعبير عن المصالح المتعددة لها، طالما أنها فى الأول والآخر لها شمال وجنوب، وبر وبحر، وساحل وبادية، والوادى والصحراء، وريف وحضر، ومناطق الصناعة وأخرى للزراعة، وفيها من المدن الكبير والصغير. كل ذلك، وفى إطار الدولة الواحدة والوطن الواحد تولد السياسة من جديد غنية وعفية بتعبيرها عن شباب وكهول وشرائح اجتماعية شتي. والنقطة التالية للبداية هى أن مصر ليس فيها فقط كل ذلك، ولكن أيضا لأنها باتت من الكبر حجما ونوعا بحيث يستحيل معها استمرار طبيعة الدولة المركزية التى تكون دولة فاعلة فقط فى ظل أحجام صغيرة. مصر الآن تجاوزت المائة مليون نسمة، وهؤلاء لهم امتدادات خارجية تجاورت 12 مليون نسمة، وجميعهم فى الداخل والخارج يعيشون فى ظل أعظم الثورات التكنولوجية التى تمد قدرات البشر وتعظمها وتجعلها جزءا من عالم كبير أكبر كثيرا ما عشنا فيه من قبل. وما لا يقل أهمية هى أن هذه التطورات جعلت من حالة مصر كدولة أرقامها تقول إن مساحتها مليون كيلومتر مربع، وسكانها مائة مليون، وناتجها المحلى الإجمالى مقوما بالقدرة الشرائية للدولار يصل إلى تريليون ومائة وتسعة وستين مليار دولار؛ ليست فى النهاية كما تقول به الأرقام لأن هذه ذاتها توجد فى ظل معرفة وتكنولوجيا مختلفة عما كان عليه الحال فى السابق. والنتيجة هى أن التعامل السياسى مع هذا الحجم يحتاج إلى صيغة من اللامركزية تتيح تعاملا مختلفا. وما تحقق خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس السيسى يجعل هذا الحجم متزايدا بسبب الأنفاق أسفل قناة السويس، والانتقال من النهر إلى البحر سواء كان البحر المتوسط فى الشمال أو الأحمر فى الشرق، والقطارات والطرق السريعة فى كل الأنحاء.

النقطة الثالثة هى أن مصر وضعت نظاما إداريا كان مناسبا لإدارتها خلال القرنين الماضيين، وأن هذا النظام كان موضع المراجعة خلال السنوات الماضية، والآن آن الأوان لكى نجعل هذا النظام مناسبا لحجمها، وموائما لتطلعاتها، ومنتجا لقادتها المعبرين عن واقعها. وخلال السنوات الماضية ترددت أفكار وحتى تولدت مشروعات لتغيير واقع المحافظات ثم تم التراجع عنها، وتردد أنه سوف يجرى فتح محافظات الصعيد على البحر الأحمر، وأن القاهرة سوف تتمدد حتى يكون لها شاطئ على خليج السويس، وظهرت محافظة للعين السخنة على خرائط. كل ذلك كان أفكارا برقت فى أوقات ثم بعدت عن سماوات الفكر السياسي. والآن لم يعد هناك بد من مواجهة كل هذه الأفكار، والواقع من أمامها وخلفها، والاستجابة لمستقبل رؤيته موضحة فى 2030، فما هى مصر التى نريدها بعد دستة سنوات من الآن، وربما فيما بعد ذلك حتى نهاية القرن؟ ولحسن الحظ أن تعيين اللواء بكر الجندى وزيرا للتنمية المحلية، مع كل معرفته الإحصائية بالحالة المصرية من خلال عمله الرائع فى الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، سوف يكون مفيدا للغاية خلال المرحلة المقبلة فى هذا المجال.

المؤكد أن مصر تحتاج إلى قانون جديد للإدارة المحلية يقوم على التنمية والتقدم وليس لمجرد تسهيل أعمال الحكومة المركزية، ومساعدتها على ممارسة أعمالها. الواجب الآن هو العكس تماما حيث تقوم الحكومة المركزية بدور الوظائف الرئيسية للدولة من حماية وتأمين وتنظيم، بينما تقوم المحليات بالتعامل مع واقعها وتنمية مواردها وتنظيم خدماتها وإدارة شئونها من خلال انتخابات مجالس محلية وعمد ومحافظين، ومجالس استثمارية تنظر إلى واقعها المحلى وما فيه من قدرات وطاقة على الابتكار والتفوق. وعلى أى الأحوال فإن الأمر كله يحتاج إلى مراجعة، ومتابعة لتجارب الدول والمجتمعات الأخرى التى باتت أغلبيتها لا تعرف فكرة الدولة المركزية.

نقلا عن صحيفة الأهرام