مصراوي 24
مصراوي 24

د. عبد المنعم سعيد يكتب: الطريق الصعب إلى الديمقراطية

-

للوهلة الأولي فإن الدستور المصري والواقع الفعلي من مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية، وممارسات قانونية، يشير إلي أن مصر دولة ديمقراطية. فالدستور يقول بذلك، وفي مقدمته يقول «نحن نؤمن بالديمقراطية طريقا ومستقبلا وأسلوب حياة، وبالتعددية السياسية، وبالتداول السلمي للسلطة ...»، و «نحن ـ الآن ـ نكتب دستورا يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية»، وجاء في المادة الأولي أن «جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، وهي موحدة ولا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شيء منها، ونظامها جمهوري ديمقراطي، يقوم علي أساس المواطنة وسيادة القانون». الاختيار المصري هنا واضح للطريق الديمقراطي، فلا أحد هنا يتحدث عن نظام يقوم علي «المستبد العادل»، ولا توجد مادة تحبذ نظام الحزب الواحد، ولا يوجد لدينا «مرشد عام» يجمع صفات أئمة الشيعة وسلطات الخلفاء الراشدين، وإنما لدينا سلطات ثلاث منفصلة ويوازن بعضها البعض، وانتخابات دورية لا يمكن الفوز فيها بمنصب الرئيس لأكثر من فترتين مدة كل منهما أربع سنوات فقط، ولا غير. ولكن مع كل هذه السمات الدستورية والقانونية، وحتي الفعلية لأن السلطات تمارس أدوارها المختلفة، فلا نحن، ولا أحد في العالم، يصنف مصر ضمن البلدان الديمقراطية. بشكل ما فإن مؤسساتنا لا تعمل بالطريقة نفسها التي يجري العمل بها في البلدان الديمقراطية. وربما لم يُظهر هذه الحقيقة قدر ما جري خلال الأسابيع الماضية عندما لم يسفر النظام السياسي عن مرشحين لرئاسة الجمهورية يعبرون عن التنوع في المصالح والرؤي الموجودة في المجتمع.

السبب في هذه الحقيقة أن الديمقراطية ليست نصوصا دستورية وقانونية، ولا حتي مؤسسات منتخبة أو أخري يجري تعيينها، وإنما هي أكثر من ذلك تعقيدا وتركيبا، وهي بطبيعتها عملية مستمرة يدخل فيها التدريب والتعليم وحتي الصراعات أحيانا حتي تستقيم وتستقر في اتجاه البحث إلي كمال لا يصل إليه أحد. وقد قامت الولايات المتحدة علي إعلان للاستقلال نصت كلمات توماس جيفرسون فيه علي أن جميع البشر متساوون كأسنان المشط، ولهم من حق الحياة والحرية والسعي نحو السعادة ما هم جديرون به؛ ومع ذلك فإن الدستور الأمريكي نص علي استمرار العبودية في الولايات التي تقرها، واحتاج الأمر ستة عقود لكي يصدر قانون الانعتاق، وقرنا كاملا حتي يصبح حقيقة واقعة بعد صدور قانون الحقوق المدنية، وأربعة عقود أخري حتي يجري انتخاب رئيس أسود للجمهورية. في جميع الدول الديمقراطية الأخري هناك قصص مماثلة للنضال والمجاهدة من أجل رفع السقوف، والتدريب في الممارسة، وضبط الاتجاه، فالديمقراطية كما قال حكيم هي في الأول والآخر نقطة وسط بين الاستبداد في ناحية، والفوضي في ناحية أخري.

التجربة المصرية في الأمر كله فقيرة، وسواء كان الحاكم مصريا أو غير مصري، فإن الاستبداد كان الصفة المميزة للسياسة المصرية، وحتي خلال العهد «الليبرالي» بين 1922و1952 فإن الأحداث تشهد أن الديمقراطية لا يمكن لها أن تطلق إلا سبع سنوات فقط، انتهت إلي ثورة أخري عام 1952 أعلنت عداءها المباشر للفكرة الديمقراطية. وحينما حاول الرئيس السادات أن يبدأ نوعا من التعددية كان وفق تصور بسيط أن الناس لابد لهم أن ينقسموا إلي يمين ويسار ووسط. وسرعان ما ظهر أن مصر أكثر تعقيدا وتركيبا من ذلك، ولكن ما عبر عنها من أحزاب متعددة الألوان لم يحل المعضلة فالحزب الواحد، الذي أصبح الحزب القائد، لم يغير كثيرا من الموضوع نفسه، اللهم إلا إذا اعتبرنا «الصحافة الحزبية» خطوة علي طريق التعددية السياسية انعكست فيما بعد في نوع من المعارضة داخل البرلمان ظهر أن أكثرها تنظيما واحترافا أكثر القوي السياسية عداء وكرها للديمقراطية والليبرالية في عمومها وهي جماعة الإخوان المسلمين.

ومع ذلك فإن دستور مصر الراهن وقوانينها هي العقد السياسي الذي يجعل الدولة تقف علي أقدامها، وتصبح المسألة أنه لعبور الفجوة ما بين الواقع السياسي والمثال القانوني لابد من وعي بها من ناحية، والبحث عن جسور للعبور سوف نجد أن بعضها له طبيعة هيكلية لها علاقة بحالة الدولة ذاتها، وبعضها الآخر له طبيعة تنظيمية تتعلق بالنظام السياسي ذاته. فجميع الدول الديمقراطية في العالم تتفق في أنها دول صناعية أولا كما أنها دول مندمجة ومتواصلة ومتشابكة بوسائل الاتصال والمواصلات ثانيا. ولم تكن هناك صدفة أنه بين الولايات الأمريكية كانت ولايات الشمال الصناعية هي التي رفضت العبودية، كما أن شبكة الطرق القارية التي أقامها إيزنهاور خلال الخمسينيات من القرن الماضي هي التي أعطت الفرصة لحركة الحقوق المدنية وانتصارها. ومن جانب آخر أن نشأة الأحزاب السياسية ونضجها السياسي تدريجيا أتاح تنظيما للعملية السياسية حسب الثقافة السائدة، فكانت هناك نظم تقوم علي حزبين، وأخري علي حزبين وحزب صغير مُرجّح، وثالثة علي تعدد حزبي يفرض الائتلافات الحزبية.

الطريق الصعب إلي الديمقراطية في مصر يكون باستيفاء هذين الشرطين: التصنيع ووجود أحزاب قوية. فرغم أنه توجد قاعدة صناعية في مصر، كما أنه يوجد 104 أحزاب، فإن النوعية والمستوي لا يجعل مصر بلدا صناعيا، كما أن أحزابها هي تنظيمات فردية أو عائلية علي الأكثر. وفي واقع الأمر تاريخيا أن مصر لم تعرف إلا حزبا واحدا كان هو الوفد ما قبل ثورة يوليو 1952، وبعدها أخذ الحزب الواحد أسماء متعددة حتي صار قائدا، واليوم فإن جماعة دعم مصر تقوم بالمهمة رغم أنها ليست حزبا علي الإطلاق. مثل ذلك يفرض علينا طريق السير الديمقراطي حيث تعميق التصنيع فريضة، أما الأحزاب القائمة فربما يشد من عودها أمران: حل معضلة التمويل، وجود محترفين سياسيين ينقلون الأحزاب من «الهواية» السياسية إلي الاحتراف السياسي. الثورة الاتصالية الجارية في مصر الآن سوف تضيف إلي ما سبق غذاء ورحيقا، وجرعة كبيرة من اللامركزية سوف تزود الساحة السياسية بأبعاد وقيادات محلية تستطيع الوصول إلي الساحة الوطنية الجامعة. الظن هو أن كل ذلك ممكن حتي نتجاوز اللحظة الراهنة، والمهم هو ألا نتأخر كثيرا؟!.

نقلا عن صحيفة الأهرام