وداعاً مانديلا.. ”نهاية إسطورة” 95 عاما من الكفاح والنضال بينها 27 عاماً في السجن
توقف قلب تاتا "والد الأمة" ، "بطل للعالم"، كما وصفه الرئيس الأميركي باراك أوباما زعيم جنوب أفريقيا والرمز الكبير للإنسانية، إنه الزعيم "نيلسون مانديلا" .
محاطاً بأفراد أسرته في منزله، مات نلسون مانديلا "ماديبا" كما هو لقبه القبلي الذي كان يناديه شعبه به تحبباً. وبكت جنوب أفريقيا وحزن العالم.
طالب الحقوق، الناشط، المناضل، السجين السياسي، الرئيس، الرمز. هذه بعض وجوه مانديلا، واسمه الكامل روليهلاهلا مانديلا، وقد عاش 95 سنة.
من هو نيلسون مانديلا "ماديبا"
وُلد في 18 تموز 1918. ينتمي إلى أسرة ثيمبو القبلية النافذة في كونو في محافظة الكاب بشرق جنوب افريقيا. وأجداده ملوك قبليين.
ترعرع بين شقيقتين. كان والداه أميان، غير أن والدته، المسيحية الورعة، أرسلته إلى مدرسة تلمودية وسماه مدرسه نلسون. توفي والده حين كان في التاسعة، وقال إنه أورثه "الفخر والتمرد والإيمان بالعدالة".
انخرط الشاب نلسون في جامعة فورت هير، وهي كانت للنخبة من الشبان السود. هناك درس الإنكليزية والسياسة وأصول الإدارة العامة والقانون الهولندي قبل فصله لنشاطاته السياسية.
انتقل إلى جامعة ويتواترستاند للتخصص في الحقوق، وهناك كان الأسود الوحيد، وتميز بانفتاحه على زملاء أوروبيين بيض.
مناضل سياسي
وانضم سريعاً إلى النشاطات المناهضة لنظام الفصل العنصري. فانتمى إلى "المؤتمر الوطني الأفريقي" وشارك في تأسيس رابطة الشباب فيه.
وكان مستوطنون بيض من أصول هولندية أقاموا نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا في عام 1948، وإن يمكن التمييز بحق السود واضطهادهم بدأ قبل ذلك بزمن طويل.
أوقف للمرة الأولى عام 1952. وحُكم عليه بالسجن تسعة أشهر مع وقف التنفيذ. وبالتعاون مع الحزب الشيوعي، ومتأثراً بنهج فيديل كاسترو في الثروة الكوبية، أسس مانديلا عام 1961 جناحاً عسكرياً للمؤتمر الوطني الافريقي الذي نفذ هجمات على مقار حكومية. وُجهت إليه اتهامات بالخيانة برأته المحكمة منها.
اعتقل مجدداً في 5 آب 1962 للتحريض على إضراب ومغادرته البلاد بصورة غير شرعية إلى أثيوبيا حيث التقى زعماء حركات تحرر أفريقية أخرى، بينهم جزائريون. ووجهت إليه اتهامات جديدة بالإرهاب. وفي محاكمته، برر مانديلا قبوله باستخدام السلاح بعدما كان يدعو إلى النضال السلمي. قال :"من الخطأ وغير الواقعي أن يستمر الزعماء الأفارقة في الدعوة إلى السلام ونبذ العنف في وقت ترد الحكومة على مطالبنا السلمية بالقوة. حين فشلت كل الخيارات الأخرى، اتخذنا خيار الانتقال إلى العنف في النضال السياسي".
ومن سجن بريتوريا إلى جزيرة روبن آيلاند حيث أمضى 18 سنة. هناك عُزل عن العالم وباقي السجناء السياسين. ونُقل عام 1982 إلى سجن بولسمور مع قادة آخرين في المؤتمر الوطني الأفريقي.
كان مانديلا خلف القضبان، لكن العالم لم ينسه. في تموز 1988، احتفلت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" بعيده السبعين في حفل موسيقي في لندن. وبعدما أصابه السل نتيجة احتجازه في ظروف سيئة، نُفل في كانون الأول من تلك السنة إلى سجن فكتور فستر ليقيم في ظروف أفضل، كأنه في منزل حيث خصص له طاه خاص.
وفي 11 شباط 1990، أمسك نلسون مانديلا بيد زوجته الثانية ويني وخرج ليحيي جنوب افريقية جديدة ويطل على العالم الذي احتفل بإطلاقه وطي صفحة بشعة من تاريخ البشرية. وقال لشعبه :"أقف أمامكم خادماً متواضعاً".
ذاك اليوم التاريخي ترددت أصداؤه في كل مكان، ولولاه لم يكن ممكناً أن يصل أوباما نفسه إلى البيت الأبيض وأن يدخل سياسيون سود الحكومات والبرلمانات في أوروبا.
توقع سجانوه السابقون أن يجنح الرجل الذي خسر 27 سنة من عمره خلف القضبان، إلى الانتقام. لكنه رفع راية التسامح. ودعا إلى فتح صفحة جديدة تعيد للسود اعتبارهم وتعطيهم الحق في بلاد هم سكانها الأصليين، وتحمي البيض من الاضطهاد. فبدأ مفاوضات مع النظام الذي كان يقوده فريديرك دوكليرك.
وفي 27 نيسان 1994 شهدت جنوب أفريقيا انتخابات فاز فيها المؤتمر الوطني الافريقي مهدت طريق السجين السياسي السابق إلى الرئاسة. كان ذلك في 10 أيار.
وصف مانديلا بلاده بأنها "أمة قوس قزح"، مشدداً على أنها للجميع، مندداً بأعمال العنف المتبادلة بين البيض والسود. في سنواته في الرئاسة بين عامي 1994 و1999، أعطى الأولوية لتحقيق المصالحة الوطنية وإعادة جنوب أفريقيا إلى الساحة الدولية بعدما كانت دولة منبوذة تخضع للعقوبات. وكذلك لمعالجة الفقر والتصدي للأمية وانتشار مرض العوز المناعي المكتسب (الايدز).
تعِب الرئيس الأسود الأول لجنوب أفريقيا وقرر التقاعد وبقي ملهماً لشعبه وزعمياً روحياً وأيقونة دولية، للسود والبيض على السواء، للفقراء والسجناء السياسيين. وكرمه العالم بمنحه جائزة نوبل للسلام وجعل تاريخ ميلاده في 18 تموز يوماً عالمياً يحمل اسمه.
زوجات مانديلا
لـ"ماديبا" ثلاث زوجات. الأولى هي ايفلين ماسي التي اقترن بها عام 1944. وهي ممرضة وناشطة في المؤتمر الوطني الافريقي. وقد انفصلا عام 1957 بعدما عجزت عن تحمل غيابه المستمر وخياناته المتكررة. ولهما نجلان وابنتان.
ويني ماديكيزيلا هي الزوجة الثانية التي وقفت إلى جواره حين خرج إلى الحرية. ولهما ابنتان.
وحبيبته ورفيقته في سنيه الأخيرة هي زوجته الثالثة غراسا ماشيل، أرملة رئيس موزامبيق السابق سامورا ميشال. وقد ارتبطا في عيد مولده الـ80 عام 1998.
وصيتُه
يغادر مانديلا عالمنا تاركاً سيرة مُلهمة، وحافراً اسمه في سجل رجالات البشرية الكبار. ومن أقواله :"يبدو الأمر دائماً مستحيلاً حتى تنفيذه". و"الشجاعة ليست غياب الخوف بل الانتصار عليه". و"التفاؤل يعني أن توجه ناظريك إلى الشمس، وتدفع قدمك إلى الأمام". و"إننا نقتل أنفسنا عندما تضيق خياراتنا في الحياة". و"التسامح الحق لا يعني نسيان الماضي".
وهو أصر مراراً على التأكيد أنه ليس "قديساً". ويمكن اعتبار الكلمات التالية وصيته إلى أبناء بلاده الذين يغرقون في القلق والوجوم في هذه اللحظات الحرجة. وكذلك رسالة إلى البشرية. ففي رأيه، "لا يولد أحد يكره الآخر بسبب لون بشرته أو ظروف نشأته أو دينه. الناس يتعلمون الكراهية. فإذا كانوا قادرين على اكتسابها، يمكنهم تعلم المحبة، فهي تأتي بصورة طبيعية وعفوية إلى القلب البشري".