هيام محي الدين تكتب: تجديد الخطاب الديني (10) الفصل الثاني ”مناهج البحث” المنهج التاريخي
يعد المنهج التاريخي أكثر المناهج أهمية وصعوبة واحتياجًا إلى الحذر الشديد والدقة المتناهية عند تطبيقه على النص المنزل المحفوظ نظرا لتضارب الروايات حول أسباب النزول ومدى ارتباط النص بمرحلة تاريخية من مراحل الدعوة واختلاف وضع المجتمع المسلم من مرحلة لأخرى أو ارتباط النص بحدث أو سلوك كان سائدًا في عصر النزول وأصبح منعدما في العصر الحديث الذي نعيشه اليوم مثل قضية الرق واستعباد البشر ، وآية السيف ، وإدناء جلابيب النساء عند قضاء الحاجة في الخلاء وغيرها من الآيات المرتبطة بمرحلة تاريخية أو سلوك مجتمعي خاص بعصر النزول ؛ وتعتبر قضية الرق من القضايا التي تبرز أهمية استخدام المنهج التاريخي فقد وضع القرآن الكريم مجموعة من القواعد الدينية تتراوح بين الاستحسان والإلزام لعتق الرقاب وتحرير العبيد والإماء وتمثل الإلزام في كفارات بعض الذنوب وسهم كامل من الزكاة ؛ والتي إذا نفذت عبر التاريخ لكان المسلمون أصحاب السبق والفضل في قضية تحرير الإنسانية من العبودية ؛ فقد وضعت هذه القواعد للتنفيذ التدريجي عبر سنوات تتجاوز عصر النبوة إلى ما بعده حتى تصل إلى التحرير الكامل ؛ ونفس المنهج يمكن تطبيقه على آية السيف على أساس أنها مرتبطة بمرحلة تاريخية معينة لأن إطلاقها في الزمان سوف يتعارض بوضوح مع عشرات الآيات المحكمة ومع مقاصد الشريعة ومبادئ السلوك والأخلاق والعقيدة في الإسلام ومع الرحمة المهداة للعالمين المتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وعلى هذا الأساس يمكن لعلمائنا المستنيرين.
المتخصصون استخدموا هذا المنهج في تجديد الخطاب الديني من خلال ربط النص بأحداث التاريخ ، وضرورات وعادات المجتمع البشري المتغيرة عبر العصور متوخين الدقة المتناهية والحذر الواجب للحفاظ على ثوابت العقيدة أما تطبيق المنهج التاريخي على مرويات الحديث وأحكام الفقه فهو أكثر يسرا ولكنه ليس أقل أهمية فاستخدام المنهج التاريخي مع مرويات الحديث الشريف سوف يعطينا رؤية مرتبطة بالتواتر التاريخي لتحقيق وتصنيف وتأكيد أو رفض هذه المرويات ؛
فمثلًا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة التي تؤكد تسامحه وعفوه ورحمته وتعاطفة ورقة مشاعره وإنسانيته الرفيعة وخلقه العظيم وصدقه وأمانته وعدله والتي أكدها التاريخ في العديد من الأحداث التاريخية الثابتة وأثبتها له القرآن الكريم بالنص المحفوظ لا يمكن أن تتسق مع حديث " بعثت بالسيف " فقد بعثه الله رحمة للعالمين هاديًا ومبشرًا ونذيرًا ولم يبعثه فظا غليظ القلب مهددا مخالفيه بالقتل وإزهاق الأرواح ؛ وهناك العديد من مرويات الحديث التي يمكن تحقيق صحتها وضعفها من خلال المنهج التاريخي ؛ كالأحاديث التي تؤيد رأيا سياسيًا أو تتحدث عن نظام حكم أو حكام جاءوا بعده مثل الأحاديث عن الخلافة والخلفاء بعده ؛ والأحاديث التي تفضل بعض الصحابة على بعض أو توصي بالخلافة والحكم للأمة بعده فكلها يجب تطبيق المنهج التاريخي عليها لشبهة وضعها في عصور تالية لدعم آراء سياسية للفرق التي انقسمت إليها الأمة بعد الفتنة الكبرى ؛
وكذلك الأحاديث التي تحتوي علوما ومعلومات لم تكن معروفة للناس في العصر النبوي أما الأحكام الفقهية والفتاوى الدينية في القرون السابقة فهي الميدان الأوسع لاستخدام المنهج التاريخي كمنهج بحث لتجديد الخطاب الديني فالفقه بكل أحكامه ومذاهبه وأصوله وأدلته إنما هو نتاج فكري لعصر محدد ولمرحلة تاريخية لا يتعداها بل هو أيضًا نتاج لبيئة مكانية لها متطلباتها وضروراتها في إطار الزمن الواحد ؛ فقد ثبت للإمام الشافعي مثلا أن ما يصلح للعراق من فتاوي وأحكام لا يصلح لمصر فغير الكثير من أحكام مذهبه العراقي حين حل بمصر وعاش فيها ، وفرض التاريخ وعلوم العصر على الفقهاء وأئمة المذاهب وتلاميذهم ما توصلوا إليه من فتاوي وأحكام تظل في إطارها العام فكرا تاريخيا تراثيا وليست دينا ملزما للعصور التالية.
وعلينا ونحن نجدد خطابنا الديني أن نتفهم الظروف التاريخية لعصر كل من أئمة المذاهب والفقهاء الذين تعرضوا للإفتاء في أمور ارتبطت بمعارف وعلوم عصرهم ؛ وضرورات وحاجات مجتمعهم في ظل ظروف تاريخية وسياسية ومجتمعية مختلفة جذريًا عما نعيشه في عصرنا ؛ فلا يمكن مثلا أن نأخذ اليوم بما أجمع عليه جمهور الفقهاء بعدم صلاحية مياه صنابيرنا المعاصرة للوضوء لإضافة مواد مطهرة ومنقية لها كالكلور مثلا ؛ أو نأخذ أيضًا بما قالوا به عن تحريم الغناء والتصوير والنحت ؛ رغم انتشار الفن الأول منها وهو الغناء وبلوغه مستوى رفيعًا منذ أسسه معبد وابن سريج في مكة والمدينة في العصر الأموي حتى بلغ قمته العظمى في عصور الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق على يد إبراهيم الموصلي وابنه العظيم إسحاق وتلميذهما النابغة " زرياب " الذي نقل ابداعاته إلى الأندلس وكان جميع الخلفاء تقريبا من المتذوقين الكبار لهذا الفن ؛ وانتشر تعليم الغناء المتقن للجواري والقيان في العصرين الأموي والعباسي مثل سلامة وحبابة ودنانير وشارية وعريب.
ومن يقرأ سفر الأصفهاني الأسطوري يعيش تاريخ هذا الفن ومدى تأثيره في الشعر والأدب والحياة الاجتماعية حتى نهاية القرن الرابع الهجري بل لقد مارسه الخلفاء وأبناؤهم ممارسة المحترفين مثل إبراهيم بن المهدي وأخته علية شقيقا هارون الرشيد ومثل الخليفة الواثق " هارون بن المعتصم " الذي كان ملحنا ومطربا وعالما في فنون الغناء ينافس إسحاق الموصلي نفسه ومن المؤسف أني لم أقرأ من هذا السفر إلا بعض المختار منه ولم يقرأه كاملا بتأمل فكري- فيما أعلم – إلا اثنان أحدهما الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي والثاني تربطني به رابطة ابنة بأبيها وأدين له بتوجيهي لقراءة بعض من مختاراته وأعلم أنه سيغضبه ذكر اسمه في هذا المقال فهو ليس من هواة الشهرة ؛ ورغم هذا الانتشار لفن الغناء طوال عصور الازدهار الحضاري للدولة الإسلامية وإسهام فنانيه في تطوير الغناء والموسيقى وآلات العزف " أضاف اسحاق الموصلي الوترين الخامس والسادس لآلة العود واخترع الكندي آلة القانون " ورغم كل ما أورده كتاب الأغاني للأصفهاني من تقدير شامل لهذا الفن طوال عصور الازدهار الحضاري للأمة فقد أفتى جمهور الفقهاء – عدا أبي حنيفة – بتحريمه ؛ وهنا تبرز أهمية المنهج التاريخي في تفنيد مثل هذه الأحكام والفتاوي ؛ فلا يمكن عقلا أن يجاهر الخلفاء والأمراء والمفكرون والأدباء بمعصية محرمة ويكافئون مرتكبيها ويعطونهم الجوائز الأسطورية بل ويمارسها بعضهم ممارسة المحترفين ، وقس على ذلك أحكام وفتاوى الفقهاء حين نتعرض لها من خلال المنهج التاريخي ؛ مثل فتاوي الإمام ابن تيمية وتلميذه " ابن القيم " التي ارتبطت تاريخيا بقضايا ومشكلات عصرها ؛ ولا يمكن الأخذ بمعظمها في عصرنا كما أن الأمة لم تعرف عنها شيئا قبل ظهورهما لأن ما سبقهما من عصور كان لا يحتاجها ؛ كما أن ما تلاها من عصور لا يمكن تطبيقها فيها ؛ وقد أدى الأخذ بها في عصرنا إلى ظهور جماعات التكفير والإرهاب والتطرف وقتل المخالفين لهذا الفكر التراثي حتى لو كانوا من المسلمين.