أحمد الخميسي يكتب: اكتشافات فنية مدهشة جدا
الأدب والفن نوع من الاكتشاف الفكري. خذ مثلا ديوان" شلح هدومك يازمن" الذي نشرته مؤخرا شاعرة شابة وتقول فيه: " شلح هدومك يا زمن.. واجري بعيد.. ليا لسان وودان وعين.. وليا إيد"! ولولا الفن ما كنت لأتخيل أن للشاعرة يدا ولسانا بل وودنا وعينا كمان! فهل هذا قليل؟ ولما كان الشعر يكتفي بالايحاء فإن القصيدة لم تأت على ذكر الصدغ والقفا، إذ يفهم من روح الشعر العامة أن ذلك كله متوفر. هناك أيضا الرواية التي صدرت بعنوان " مبروك يا مدام .. جوزك حامل" التي تكرر فكرة فيلم رأفت الميهي " سيداتي آنساتي" الذي ظهر من عشرين عاما. ولا يهم إن كانت الفكرة معادة أو مستهلكة، المهم ان يكون العنوان لافتا. وطالما أننا في زمن " شلح هدومه" فلا بأس من ظهور روائي شاب عمره 15 سنة فقط يضع إعلانا في فيس بوك يقول فيه : " أنا .. عندي 15 سنة وبنشر أول رواية ليا في معرض الكتاب باسم فالصو، الرواية بتتكلم عن أحداث المجتمع اللي احنا فيه ". ولاشك أن روائيا لم يستخرج بعد بطاقة شخصية أو رخصة قيادة هو أدرى الناس بأحداث المجتمع " اللي احنا فيه"، بحكم خبراته والحياة التي عاشها. وإذا كان الشعر والرواية يكتشفان العالم فإن الصحافة أيضا تقوم بدورها في ذلك المجال، إذ نقرأ تحقيقا صحفيا عن فانلة المطرب محمد فوزي، وكيف أن زوجته الفنانة مديحة يسري ألبسته إياها بالمقلوب خصيصا، فلما عاد إلى بيته ووجدت الفانلة بالمعدول تأكدت أنه يخونها! طيب .. كيف علم الصحفي بموضوع الفانلة؟ هل فضفضت معه مديحة ؟ أم باح له بالسر محمد فوزي؟. هذا لا يهم. المهم الضجة، والعناوين، والظهور، والحضور، واجبار الزمن على التعري. وإذا كان لدور النشر ومعظمها لا يبحث إلا عن الربح دور في تضخيم الفراغ، فإن هناك أسبابا أخرى، أعمق وأبعد من قوانين السوق التي تحكم الثقافة. سبب رئيسي يتضح عندما يؤمن أديب شاب بعبارة للكاتب البرتغالي " فرناندو بيسوا " و يستشهد بها كدليل يقوده :" لماذا الفن بهذا الجمال؟ لأنه لاغاية من ورائه، ولماذا الحياة بهذا القبح؟ لأنها مليئة بالغايات والأغراض والأهداف". وتبدو العبارة لامعة بقدر ما هي مضللة، إذ أن السر في جمال الفن لا يرجع إلى أنه بلا غاية، بل إلى طبيعة الفن الخاصة التي لا تنفي ارتباطه بغايات محددة، في مقدمتها تعميم التجربة الروحية لخلق قاسم مشترك بين البشر، وتعميق شعورنا وفهمنا للحياة، والارتقاء بالحس الجمالي، وبلورة وعينا وموقفنا مما يدور حولنا. يثبت تاريخ الفن كله منذ نشأته أن الفن ارتبط بغاية، وبهدف، حتى التراتيل في الكنائس كانت بهدف جذب الناس إلى الايمان، كما أن الكتب المقدسة كلها تقوم على الايقاع الشعري بنفس الهدف. وإذا كانت كل أنواع الفنون عمليات تشتمل بالحتم على مبدع، ومتلقي، وأنه لا وجود للفن إلا بحضور الآخرين، فإن ذلك يعني أن الفن يستهدف طرفا آخر. أما قول " فرناندو بيسوا" إن الحياة قبيحة لمجرد أنها مليئة بالأغراض، فإنه يندرج تحت باب العبارات اللامعة والفارغة في آن، فالحياة هبة لا تتكرر، عامرة بالحب والتفكير، ولا يعيب الحياة أن يكون لكل شيء فيها وظيفة وهدف وغرض، ومعظم هذه الأغراض نبيلة تتعلق بتواصل الحياة وتدفقها. ليست قوانين السوق وحدها السبب في الاكتشافات الفنية من نوع أن للشاعرة أنفا وحاجبا ، أو أن شابا عمره 15 سنة سيحدثنا عن أحداث مجتمعنا، هناك أسباب أخرى تتعلق بفصم العلاقة بين الفن ودوره الاجتماعي، وعندما يصبح الفن " جميلا لأنه لا غاية من ورائه " يمسي من الطبيعي أن نقرأ ونسمع ونشاهد ونكابد كل تلك الاكتشافات الفنية الباهرة.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري