د. أحمد الخميسي يكتب: البطولة حرفة المصريين اليومية
يقول يوسف إدريس إن الشعب المصري يمارس البطولة:" كعمل يومي لا فخر فيه ولا ادعاء". سنلقى نماذج ساطعة من تلك البطولة مثلما حدث في مايو 2016، حين غامر المواطن أحمد فضل بحياته وهو يقوم بفصل اثنتي وعشرين عربة عن قطار اشتعل فيه حريق ليجنب المدينة كارثة محققة. لقد قام بذلك بلا فخر ولا ادعاء مثلما يقوم بكل الأعمال اليومية البسيطة. وسنقرأ عن الرائد مصطفى عبيد الذي استشهد في يناير 2019 وهو يقوم بتفكيك عبوة قنبلة غرزها مجرمون على سطح مجاور لكنيسة " العذراء مريم" لتفجير الكنيسة في أعياد الميلاد، فافتدى مصطفى عبيد بحياته وحدة الوطن، في صمت، وأيضا بلا فخر، ولا ادعاء. أبطالنا كثيرون وحياتنا اليومية عامرة بهم، لكن البطولة المصرية تمتاز عن غيرها بأنها وثيقة الصلة بالايمان العميق والتفاؤل والسخرية اللاذعة من كل خطر، والثقة في أن مصر محمية من السماء، مذكورة في القرآن الكريم، أو كما كما قال الأنباء ماكاريوس:" كل البلدان في يد الله، أما مصر فإنها في قلبه". انظر في ظل وباء كورونا كمية النكت والأغنيات الساخرة التي تخفي الايمان بأن مصر لن تصاب بسوء، وسوف تندهش، انظر قول أحدهم لصديقه:" العالم كله يكرر أننا على ما يبدو سنموت قريبا وأنت جالس هنا تضحك؟. فأجابه الاخر: وهل تريدني أن أموت وعلى وجهي تكشيرة ؟!". هذا المزيج العجيب من الايمان والقدرة على الضحك هو ما تمتاز به بطولة المصريين عن بطولات الشعوب الأخرى. وعندما أغرق المطر شوارع القاهرة كان بعض الشباب يجوب الشوارع بسيارته في منتصف الليل لتوصيل الناس التي لم تجد وسيلة مواصلات. وقام أحد المطاعم في السيدة زينب باعلان يوم طعام مجاني، بينما عرض فندق في شارع شريف كل حجراته بالمجان لمن اضطرتهم السيول وتوقف القطارات الى المبيت في الشارع. كل أولئك أبطال يمارسون البطولة : " كعمل يومي لا فخر فيه ولا ادعاء". وقد سجل الأديب محمد ناجي صورة أدبية نادرة من حرب أكتوبر لفلاحة مصرية مجهولة ظلت واقفة بجوار كوبري بسيط في قرية جنيفة على الطريق بين الاسماعيلية والسويس تتابع ببصرها الطائرات الاسرائيلية بينما كان الجنود المصريون ينقلون زملاءهم الجرحى إلي تحت الكوبري، وكانت كلما أقبلوا بجندي جريح تمزق قطعة من جلبابها تضمد بها جراحه حتى لم يبق مزقة على بدنها فمكثت عارية تحت السماء تهتف" الله أكبر". أي بطولة وأي سحر وأي جمال في هذه المرأة؟ بطولة بلا ادعاء ولا فخر. وفي ظل وباء الكورونا أشارت الصحف في 26 مارس إلى إصابة ممرضة في مستشفى جامعة المنصورة الرئيسي بكورونا ونقلها للعزل والعلاج، وقالت زميلة لها : " قعدنا جميعا نبكي لحظة أن عرفنا أنها مصابة بالكورونا، لكننا قررنا أن نغلق القسم الذي أصيبت فيه وأن نعزل أنفسنا مع المرضى لنواصل اعطاءهم العلاج وتركيب المحاليل، ومارسنا عملنا بشكل عادي". تأمل عبارة " مارسنا عملنا بشكل عادي" والشعور العميق بالمسئولية الذي يختفي وراءها. في 9 يوليو 2019 توفي اللواء السيد الشافعي، بهدوء، ومن دون ضجة، وهو اللواء الذي دمر 26 دبابة اسرائيلية في حرب أكتوبر وتمكن من أسر ديفيد جروس قائد كتيبة دبابات العدو. كتب اللواء الشافعي في مذكراته:" قررت أن أشن هجوما ليليا صامتا بالمشاة فقط من دون استخدام الدبابات، وشكلت مجموعات من قناصة الدبابات انقضت في جوف الليل على الأعداء وهم نيام، وأبادوهم، ثم هجم أبطالنا، وكان الجندي المصري يدفع نفسه تحت الدبابة ويصعد عليها من الخلف ويلقي قنبلة عليها ويفجرها! هكذا دمرنا 26 دبابة وقمنا بأسر الكثيرين وعلى رأسهم قائد الكتيبة " ديفيد جروس"، وقد سألته عن رأيه في المعركة التي دارت فقال:" لقد حارب رجالكم بطريقة مذهلة.. هل تعطونهم حبوب الشجاعة؟"، فقلت له : " لا . لكنه الجندي المصري"! أي فخر واعتزاز يشعر به المرء حين يجيب اللواء الشافعي بقوله: " إنه الجندي المصري"! هي بطولات يومية لا تتصدر شاشات التلفزيون ولا يحصد أصحابها جوائز، بطولات تتم بتواضع وإنكار ذات " كعمل يومي لا فخر فيه ولا ادعاء". وسوف نرى ونلمس ونحس بنهر كل تلك البطولات في تفاصيل حياتنا اليومية، لكن البطولة المصرية تمتاز عن غيرها بملمح أساسي: بالتفاؤل والسخرية اللاذعة من كل خطر والايمان العميق بأن مصر محمية من السماء، فهي مذكورة في القرآن الكريم، أوكما قال الأنباء ماكاريوس:" كل البلدان في يد الله، أما مصر فإنها في قلبه". يحق لي، ولمن أراد، أن يفخر بأنه ينتمى لشعب ساخر، مقاوم، هزم كل المصاعب والكوارث في تاريخ طويل، ضاحك، وقوي، ومبدع.