رجائي عطية يكتب..القمم وسعى الناس
ينشغل الآدمى طوال حياته بتحقيق طموحاته، وبطلب الرفعة أو التقدم أو الارتفاع أو الصدارة أو المجد .. تمضى به رحلة الحياة عبر محطات أو مراحل ، ولكن عينه لا تكف عن رصد أهدافه والتطلع إلى غاياته ، مثلما لا يكف سعيه ومناهدته من أجل تحقيق ما يتمناه أو يرجوه أو يرى أنه جدير به خليق بإمكاناته ومواهبه وملكاته وقدراته .. سعى الآدمى وجريه وربما لهاثه وراء طموحاته، سعى لا ينى ولا يهدأ ويكـاد يكون شاغل معظم الناس إلا من انسلت من تيار الحياة أو تطلعاتها إما لتحليق روحانى صوفى أو نظر فلسفى خاص، وإما لعلل أو مثبطات أو عوائق أو موانع أو ما شابه فرضت عليه أن يقنع بما هو فيه، ويكف عن التطلع إلى المزيد .. يبقى الآدمى مشغولاً بالقمة أو الذروة التى يريد، فإذا بلغها ربما بحث عن قمة تالية أو قمة أخرى موازية، ولكن حاله بالتأكيد على القمة غير حاله قبل أن يبلغها، وما يصادفه ويلقاه ويواجهه وهو متربع عليها يختلف اختلافـًا هائلاً عمـا صادفه وألفاه وكابده وواجهه فى صعوده أو ارتقائه إليها !
والقمم التى أعنيها ليست قمة واحدة، وإنما هى قمم وذرى متعددة بتعدد النشاط الآدمى وتنوعه واختلافه فى الحياة .. تختلف القمم والذرى أو الصدارات الأدبية ك عمادة الأدب أو إمارة الشعر ومشيخة مهنة أو حرفة، عن تلك التى تمتلك سلطـة أو فعالية وتمـارس ممارسـة إدارية أو تنفيذية أو سياسية أو دولية.
اجتماع القمم أو الذرى لدى الشخص الواحـد وارد، ولكنه ليس قائمـًا فى كـل الأحـوال .. ليوبولد سنجور كان رئيسا للسنغال، يحتل قمتها السياسية، وكان شاعرًا متميزاً احتل فى بلده قمة الشعر .. وهى قمة أدبية لا تمارس سلطات.. وتاريخنا الأدبى والفكرى والثقافي، والسياسى أيضًا ـ حافل بصور تكرر فيها الجمع بين قمم أو ذرى متنوعة، وأخرى استعصى فيهـا الجمـع وقد يصل الحال إلى تنافر لا يتفق مع ما يجب أن تترجم عنه المواهب أو الملكات أو العلم والمعرفة أو القدرات!
احتل طه حسين عمادة الأدب العربي، وبلغ أيضًا عمادة كلية الآداب, وولى وزارة المعارف, ورئاسة مجمع اللغة العربية بعد أحمد لطفى السيد.
ومع أن عباس العقاد قد احتل قممًا وذرى عديدة لم يبلغها سواه، ولكنها أدبية لا سلطة ولا سلطان فيها. عمادة الفكر، و عمادة الأدب ، وعمادة المنافحة طوال حياته عن الإسلام ، وعمادة الشعر ، وعمادة النقد . ومضت حياته غنية بقمم أدبية ولكن دون أى قمة إدارية أو تنفيذية أو سياسية .
رأينا أحمد شوقى ومعه حافظ إبراهيم على قمة الشعر فى عصرهما. ورأينا قممًا عديدة فى عالم الصحافة .. محمد التابعي ، ومصطفى أمين، وعلى أمين، ومحمد حسنين هيكل، وإحسان عبدالقدوس الذى اعتلى قمة أيضًا فى عالم القص والرواية, وغيرهم من نجوم الصحافة حتى الآن.
عرفت المحاماة قلة جمعت بين قمة ومشيخة وأستاذية المهنة، وبين الموقع النقابى الموكول إليه تنظيم رعاية وآليات المهنة .. منهم ـ تمثيلاً لا حصرًا ـ إبراهيم الهلباوى أسطورة المحاماة، وأول نقيب للمحامين، وعبد العزيز فهمـى صاحب قمـم المحامـاة والقضاء والوزارة والنضال السياسى الشريف العفيف، وقمة رئاسة حزب الأحرار الدستوريين، وثانى نقيب للمحامين, ومنهم مكرم عبيد صاحب الصيت والمشيخة والأستاذية والقمة المتفردة فى مشيخة المحاماة، هذا إلى تبوئه موقع النقابة غير مرة، فضلاً عن قمم سكرتارية الوفد، ورئاسة الكتلة الوفدية، وما كان قد شغله من وزارات قبل اختلافه مع مصطفى النحاس .. وكما تبــوأ الموقع النقابى من لم ينالوا مشيخة أو قمة المهنة، فإن المحاماة عرفت قمما فى مشيختها وأستاذيتها تجاوزت قامة المواقع، ورسمت وسطرت صفحات وضاءة عاشت ولا تزال فى ضمير المحاماة عبر أجيال .. من هؤلاء ـ تمثيلاً لا حصرًا ـ سعد زغلول ، ومصطفى النحاس ، ومصطفى مرعي، ومحمد عبد الله، وعزيز فهمى ، وعلى منصور .. وآخرون ـ منهم من ارتقى قممًا أخرى ولكن غير نقابية، ومنهم من عاش متبتلاً فى المحاماة وحظى بمشيختها وأستاذيتها وقمتها عمره وما بعده.
ليست جميع القمم أو الـذرى واحدة إذن، لا فى نوعها ولا فى جنسها ولا فى فصيلتها .. من أجل ذلك كان شكل محيط القمة، ومناخها ، وما يلابسها أو يواجهها .. وما يلزمها وتحتاجه، بالغ الاختلاف من قمة إلى أخري.. عشق القمم والذرى يكاد يكون سمتا مشتركا لدى كثير من الناس! .. يمضى الآدمى عمره فى مناضلة للوصول للقمة ، ثم يفجأ حين يبلغها ـ بأنها ليست بالصورة الوردية التى تخيلها وتمناها، وبأن أثقل ما يلازمها لا سيما القمم السياسية العليا ـ الإحساس بالوحدة أو الصقيع المحيط بها.. فضلاً عن القذائف والأحجار والسهام والطعنات التى تأتى من هنا وهناك ..
القمم إذن ليست وردية ولا هى مخملية فى جميع الأحوال ، فالقمم السياسية تلاقـى صقيع القمة، وما حولها من صعاب وأشواك، وتتنوع الصعاب بتنوع القمم أو الذرى التى ينشدها كثير من الناس. والقمة السياسية معاناة وتيقظ وانتباه ومكابدة وانشغال بهموم ومشاكل بالغة التنوع والتركيب والتعقيد ـ وانشغال دائم بمغالبة الصقيع ورفع الحواجز أو القناطر والسدود ـ للالتحام بالقاعدة التحاقًا حيًّا فاعلاً يبقى ويحفظ ويثرى القدرة على رصد وجيب القلوب ونبضات وآمال الناس.. نقلا عن بوابة الأهرام