أحـمـد الـخـمـيـســي يكتب: الأم الـــمـــصــريــة .. بــطــولــة وجــمــال
في إحدى روايات الكاتب الروسي العملاق دوستويفسكي تقوم فتاة بإطلاق الرصاص على عمدة المدينة، وفي التحقيق معها يسألها القاضي عن دوافعها إلى ذلك فتجيبه بأن العمدة المدينة دأب على تعذيب المعتقلين وإهانتهم، فيستفسر منها: وهل لك بينهم قريب؟ فترد بأن أحدا من أقربائها أو معارفها لم يتعرض للسجن، فيندهش سائلا: " وما الذي دفعك إذن إلى اطلاق الرصاص على عمدة المدينة؟". تقول:" لكي يدرك هو والآخرون أن اهانة البشر لا ينبغي أن تمر بلا عقاب"! لم تكن الفتاة الشابة تدافع عن خطيبها أو والدها أو شقيقها، كانت تدافع عن مبدأ، عن فكرة، أنه لاينبغي القبول بإهانة أي إنسان. لم تكن ثمت مصلحة شخصية لديها، لكن مصلحة إنسانية عامة. تذكرت فتاة دوستويفسكي عندما قفزت إلى الأضواء صفية أبو العزم حين التقت في القطار 948 جنديا لم يكن في جيبه ثمن تذكرة السفر، فسخر منه مفتش القطار ورئيسه، وأهانوه، فقامت تتصدى لهما، وفيما بعد علقت على ماجرى بقولها:" كان لازم أعمل حاجة لأن الركاب سكتوا على الإهانة"! لم يكن الجندي البسيط ابنها ولا زوجها، لكنها كانت تدافع عن مبدأ، عن فكرة أنه لاينبغي القبول بإهانة أي إنسان. وقد انتشر الجدل بشأن الحادثة التي بعد ظهور شريط مصور بما حدث يوم الأربعاء 9 سبتمبر، وردد البعض أن من حق المفتش أن يطالب بالتذكرة، ورد آخرون: نعم من حقه، لكن ليس من حقه أن يهين إنسانا، ولا أن يسخر منه. وقالت صفية أبو العزم لاحقا إنها دفعت ثمن التذكرة نيابة عن الجندي الشاب:" تذكرت أولادي في نفس الموقف وبكيت، قلبي وجعني عليه"! إنه قلب المرأة التي لا يرى فيها كائنات العصور الوسطى إلا مصدرا للغواية الجنسية لابد من حجبه بملازمة البيت في عربة القطار 948 جلس عشرات الرجال لكن المرأة وحدها، لا أحد سواها، هي التي نهضت من مقعدها لتساعد الجندي الشاب. قلب الأم المصرية المشغول برقة القمر ودفء الشمس، بفضة البطولة وذهب الجمال. امرأة مصرية أخرى هي آمنة دهشان تصادف رحليها عن دنيانا قبل واقعة القطار بيوم واحد في 8 سبتمبر عن 95 عاما. الحاجة آمنة مواليد 1925 من أسرة بدوية هاجرت إلى مدينة الاسماعيلية وأقامت هناك، وعندما شب عودها تزوجت من ابن عمها، ومد الله في عمرها لتكون شاهدة على ستة حروب: الحرب العالمية الثانية وتحكي عنها :" أتذكر أول غارة وأنا في السابعة من عمري حين كانت الطائرات الألمانية تحلق لقصف المواقع البريطانية، والجنود الانجليز يختبئون وسط المزارع"، ثم شهدت حرب فلسطين 1948، والعدوان الثلاثي على مصر1956 ، وحرب 67، وحرب الاستنزاف، حتى حرب أكتوبر 1973! لكن هذه المرأة البدوية البطلة لم تكن مجرد شاهد بل واحدة ممن صنعوا الأحداث، وحينما لم يكن عمرها يزيد عن خمسة وعشرين عاما انضمت إلى الفدائيين الذين كانوا يختطفون الانجليز في مدن القناة، وشاركت في معركة الاسماعيلية بين قوات البوليس المصري وقوات الاحتلال الانجليزي في يناير 1952، وتتذكر الفدائية العظيمة آمنة الدهشان تلك السنوات فتقول: " كان السلاح يصل إلينا في الاسماعيلية من المحافظات على الجمال، بعد أن شدد الانجليز التفتيش على القطارات والطرق الزراعية، وكنت أخفي الأسلحة في عربة خضار أسير بها وداخل ملابسي إلى أن أنقله للفدائين". بعد حرب 1967 والنكسة رفضت آمنة الدهشان التهجير من الاسماعيلية وكان الكثيرون قد هاجروا، وأصرت على البقاء في بيتها هناك لتستقبل فيه أبناء الاسماعيلية من الجنود العائدين، ثم انخرطت بعد ذلك في العمل السياسي وأصبحت أول امرأة ريفية تشغل منصب عضو مجلس المدينة المحلي بمحافظة الاسماعيلية. أنجبت سبعة أولاد، وأحاط بها في أواخر عمرها ستون حفيدا ! وحينما كانت آمنة الدهشان تخفي السلاح لتنقله إلى الفدائيين تقاعس رجال كثيرون عن تلك المهمة الخطرة، وحينما شاركت في معركة الشرطة ضد القوات الانجليزية كان رجال كثيرون يخشون ذلك، ثم يأتي أحدهم بعد ذلك ليتحدث عن أن المرأة يجب أن تلزم البيت لأن الرجل هو حاميها! لكن واقعة القطار، ورحيل البطلة آمنة الدهشان يذكرنا بجمال وبطولة المرأة المصرية التي خلق قلبها من رقة القمر ودفء الشمس، من فضة البطولة ومن ذهب الجمال، من القصائد ومن البنادق، ومن الأغاني والكفاح.