ياسر رزق يكتب: نحن.. والنموذج الديمقراطى الأمريكى!
أشياء كثيرة فى سوق الانتخابات، كنت أظنها بضاعة مصرية، برعنا نحن فى صناعتها، ثم توقفنا عن استهلاكها بعدما صارت منتهية الصلاحية سياسياً وشعبياً، لكنى اكتشفت فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، أنها بضاعة متعددة الجنسيات، لا تحتاج إلى «فرانشايز» لبيعها، ولا إلى حق ملكية فكرية عند تداولها..!
فى سنوات الثمانينيات، سمعت والدى رحمه الله، يهنئ صديقه الفائز فى انتخابات مجلس الشعب ويداعبه قائلا: «لك أن تعرف أن العائلة كلها قد أعطتك أصواتها، حتى أبى أصر على أن يشارك فى التصويت، برغم أنه مات منذ عشر سنوات»!
ظننت والدى يبالغ فى المزاح، ثم اكتشفت أنه كان يرثى لحال الانتخابات فى مصر، ويغلف رثاءه بالمداعبة، بعدما شاهد توقيعاً أمام اسم جدى المتوفى، يدل على أنه حضر إلى لجنة الانتخاب وأدلى بصوته، مثله مثل آلاف الموتى الذين وُقَّع لهم بكشوف الناخبين فى عمليات الاقتراع البرلمانية أو الاستفتاء على شخص رئيس الجمهورية، رغماً عن مقابرهم..!
منذ عشر سنوات تقريباً، ودعت مصر عصر إحياء الموتى فى دفاتر اللجان، و«تستيف» بطاقات التصويت وإبداء الرأى المسودة سلفاً داخل الصناديق، وكانت بداية التصويت النظيف، باستفتاء مارس ٢٠١١ على التعديلات الدستورية واستمر الحال بعدها على نفس المنوال، ربما باستثناء الاستفتاء الإخوانى على دستور ٢٠١٢.
< < <
خلال الأيام الماضية، فجعت وأنا أتابع تغريدات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ونجله الأكبر دونالد جونيور، تتحدث عن تصويت المتوفين بأعداد كبيرة فى عديد من الولايات الأمريكية.
الأكثر من ذلك، أننى شاهدت فيديو لناخب من الأفريقيين الأمريكيين يرتدى «تى شيرت» لحملة المرشح الرئاسى الديمقراطى جو بايدن، ويفتح كرتونة كبيرة أرسلت إليه ـ على حد زعمه ـ من حملة الرئيس ترامب.. ويخرج ما فيها من منتجات غذائية منها جركن لبن وعبوة بيض وكيس تفاح وعبوات لحوم مصنعة، وهو يهتف فى الفيديو قائلا: «إنهم يريدون رشوتى»!
ولم يكن من الواضح هل هذه الكرتونة الانتخابية هى استفادة أمريكية من التجربة الإخوانية فى مصر ومن يسير على نهجها، أم إنها أعطيت للناخب الفقير الأمريكى وأمثاله من جانب أنصار المنافس الديمقراطى، لكى يسىء إلى ترامب وحزبه الجمهورى.
ثم شاهدت فيديو آخر لشخص غيَّر نبرات صوته باستخدام تقنية تضمن عدم كشف شخصيته، يقول لصحفى إنه يعمل فى مركز للاقتراع، وأن المسئول عن المركز طلب منه مخالفة قواعد التصويت والفرز لصالح المرشح الرئاسى الديمقراطى.
وتواترت شكاوى أخرى فى نفس السياق، من جانب أنصار الحزب الجمهورى تزعم وجود تجاوزات فى العملية الانتخابية برمتها، لاسيما فيما يتعلق بالتصويت بالبريد الذى سبق أن حذر الرئيس الأمريكى مبكراً من أنه سيكون جسراً لتزوير محتمل فى الانتخابات.
وتابعنا جميعاً إعلان حملة الرئيس ترامب عن عزمها إقامة دعاوى تطالب بإعادة فرز الأصوات، أو إلغاء بطاقات تصويت بالبريد جاءت بعد موعدها القانونى، أو تطعن بتزوير بطاقات تصويت فى ولايات بعينها معظمها من الولايات المتأرجحة أى التى ليس لها انتماء مستمر لحزب من الحزبين، وتحدد نتائجها فى معظم الانتخابات اسم ساكن البيت الأبيض.
< < <
أما عن وسائل الإعلام، فقد تابعت عن كثب وعلى مدار الساعة تغطية شبكة «سى.إن.إن» خلال الأيام الماضية، وكنت أعرف موقف الشبكة المناوئ للرئيس ترامب، وموقفه هو المنتقد للشبكة وغيرها من محطات وصحف يصفها بـ «إعلام الأخبار المفبركة»، والذى وصل إلى حد التراشق على الهواء بينه وبين مراسل «سى.إن.إن» فى البيت الأبيض.
لكنى لم أتصور أن الرغبة فى الثأر من الرئيس الذى وصف الإعلام المناوئ له بأنه «عدو الأمة»، والنزوع إلى المكايدة السياسية مع الرئيس اليمينى من جانب كتيبة الإعلاميين والسياسيين الليبراليين الذين تولوا تغطية الانتخابات والتعليق على نتائج التصويت، يمكن أن يكون لهما هذا التأثير المدمر على نزاهة التغطية وسمعة الإعلام الأمريكى ممثلاً فى أهم محطاته وهى «سى.إن.إن» فقد انتهكت المحطة أكواد ومعايير ظلت هى نفسها تطنطن باحترامها لها، حتى كدت أحفظها من كثرة تكرارها فى زيارتى لمقرها بمدينة أتلانتا منذ ١٢ عاما.
هذا الجنوح بل الانحراف عن أبسط قواعد الموضوعية ولا أقول الحياد، لم يقتصر على أطقم «سى.إن.إن»، بل كان سمة تصريحات معظم مسئولى الولايات المتأرجحة التى تأخرت فيها أعمال الفرز، وبالأخص سكرتيرو عموم ولايات بنسلفانيا وويسكونسن وميتشجن ونورث كارولاينا ونيفادا، التى كشفت عن انحياز للحزب الديمقراطى الذى ينتمون جميعا إليه.
< < <
تلك الانتهاكات لنزاهة التصويت وشفافية الفرز ومبدأ العدالة الإعلامية، التى تزعزع الثقة فى نتائج الانتخابات، تعيد إلى الأذهان أقاويل ترددت عن تلاعبات لحقت بالانتخابات الرئاسية عام ١٩٦٠ بين المرشح الديمقراطى جون كيندى ومنافسه المرشح الجمهورى ريتشارد نيكسون نائب الرئيس أيزنهاور، والتى أدت إلى إسقاط نيكسون أمام كيندى الذى فاز بفارق ضئيل للغاية لا يتعدى - فى الأصوات الشعبية- مائتى ألف صوت.
وعلى نحو أكثر فداحة، مازالت انتخابات عام ٢٠٠٠ بين المرشح الجمهورى جورج دبليو بوش ومنافسه الديمقراطى آل جور نائب الرئيس بيل كلينتون، تعد فى نظر أقطاب الحزب الديمقراطى واحدة من أقل الانتخابات نزاهة وتعبيرا عن إرادة الناخبين، أخذا فى الاعتبار ما قيل عن تأثير حاكم فلوريدا جيب بوش شقيق المرشح الجمهورى على عملية الفرز التى اسفرت عن فوز شقيقه بأصوات المجمع الانتخابى للولاية التى مكنته من الفوز بمجمل الانتخابات، بعد تغلبه على منافسه بفارق ضئيل للغاية لا يتعدى ٥٣٧ صوتاً.
ولم تهدأ حتى الآن مطاعن الديمقراطيين على أعمال شراء الذمم والأصوات فى الانتخابات، بل والتصويت أكثر من مرة!
حتى فى الانتخابات الرئاسية السابقة عام ٢٠١٦، التى أسفرت عن فوز دونالد ترامب على منافسته هيلارى كلينتون، تحدث ترامب عن قيام ملايين ممن لم يحصلوا على الجنسية وبالتالى حق الانتخاب، بالتصويت بصورة غير قانونية لصالح منافسته..!
< < <
هل المقصود من هذا المقال إيجاد مبرر أو عذر لعالمنا العربى أو دول العالم الثالث، لما يحدث عندها من انتهاكات فى الانتخابات، بذريعة أن الانتخابات الأمريكية نفسها تشهد خروقات وتلاعبات فى مجريات عمليتى التصويت والفرز؟!
قطعا لا.. بل العكس هو الصحيح.
ليس هناك أى عذر لأى دولة فى تغييب الديمقراطية النيابية وتغليب حكم الفرد أو الشخص أو العائلة أو «الثلة»، ولا عذر فى فرض حكم «الأوليجاركية»، أو الأقلية العرقية أو الدينية على الأغلبيات الإثنية.
فلا يمكن وصف دولة كإسرائيل بأنها ديمقراطية، أو النظر إليها كما يراها أنصارها فى الغرب بأنها واحة الحرية فى المنطقة، وهى تمارس أبشع أنواع القمع العنصرى ضد الفلسطينيين الذين تحتل أراضيهم وتنتهك حقوق مواطنيها العرب السياسية والاجتماعية وتشرعن هذا التمييز الإثنى الفاضح.
ولا يمكن التسامح مع دولة كقطر مثلا، فى تدخلاتها فى شئون دول المنطقة عبر الفضائيات المنسوبة لها كالجزيرة، أو فضائياتها وصحفها المتروكة لرعاية مرضعاتها السياسية فى تركيا وبريطانيا، تحت غطاء الدعوة لنشر الديمقراطية والحكم الرشيد، بينما تخلو من أى هيئة أو مجلس منتخب حتى على مستوى الأندية، ولا تعرف نظام الحكم النيابى حتى ولو من حيث الشكل، ولا يوجد نظام لتداول السلطة داخل الأسرة الحاكمة المتسلطة على رقاب المواطنين، إلا عن طريق انقلابات القصر على الأب أو الأمير الوالد..!
ولا يجب الاستسلام للظواهر التى تنتهك نزاهة وشفافية الانتخابات فى عالمنا العربى، كالطعام مقابل التأييد، والمال مقابل التصويت، حتى وإن كانت أجهزة الشرطة والأمن تنأى بنفسها عن التدخل فى الانتخابات، وحتى ولو كان النظام يحرص قولا وفعلا على الوقوف على مسافة واحدة بين جميع المرشحين فى الانتخابات البرلمانية أو المحلية أو النقابية أو غيرها.
فالمطلوب هو استخلاص دروس من كل عملية انتخابية لرتق الخروق فى النسيج الديمقراطى وسد الثغرات فى بنيان النظام الانتخابى قبل وأثناء عملية التصويت، وبعدها خلال الفرز.
وإذا كنت أتحدث عن مصر، فلا مقارنة بين ما عشته خلال مشوارى الصحفى وما رأيته رأى العين من تزوير فاحش فاجر منعدم الصلة بأى احترام لإرادة الشعب.. وما أراه الآن من بعد ثورة ٢٥ يناير، ثم ثورة ٣٠ يونيو بالذات، من حرص على حرية التصويت وسلامة الفرز، غير أن الطريق مازال طويلا لبلوغ المستوى الذى نبغيه فى الممارسة الديمقراطية، ليس على الطريقة الأمريكية، وإنما على طريقة الدول الاسكندنافية أو على الأقل الطريقة الألمانية..!
< < <
وما دمنا بصدد الحديث عن الديمقراطية الأمريكية، فى ضوء الانتخابات الرئاسية التى مازالت أدخنتها تنبعث وأوارها يشتعل تحت الرماد، وفى ظل الملاحظات أو الادعاءات أو المزاعم التى نالت فعلا من سمعة الانتخابات، وأصابت مصداقية نتائجها، وزعزعت الثقة فى أحقية فوز الرئيس الجديد أيا كان اسمه، فلابد ألا تغيب عنا حقائق وسط الدخان، وألا يتوارى عنا منطق أشياء وسط الصخب والضجيج.
أولى هذه الحقائق، أن الرئيس الأمريكى قد يأتى بإرادة الشعب، ولكن الذى يحكم حقيقة بدرجات ونسب متفاوتة هو المؤسسة (الدولة العميقة أو المجمع الصناعى العسكرى)، ربما الاستثناء الوحيد الظاهر هو الرئيس الحالى دونالد ترامب نفسه.
ولعلنا نذكر تصريح الرئيس الأمريكى الجنرال دوايت أيزنهاور فى نهاية دورته الرئاسية الثانية عام ١٩٦٠، عندما حذر الأمة من تغول ما أسماه المجمع الصناعى العسكرى وسيطرته على الحكم.
ثانىة الحقائق.. أن المخالفات أو حتى الانتهاكات فى سير العملية الانتخابية، ليست نهج سلطة، أو ليست قاعدة فى النظام أو «السيستم» الأمريكى، إنما هو استثناء لا تصعب ملاحظته أو الكشف عنه. ولعل تلك المخالفات ليست وليدة هذه الانتخابات، فهناك - كما أسلفت - روايات سجلت عنها منذ ٦٠ عاما، ومنذ ٢٠ عاما، وحتى الانتخابات الماضية منذ ٤ سنوات. لكن الذى سلط الأضواء عليها هذه المرة هو سرعة انتشار الأخبار والحقائق والادعاءات والشائعات والأكاذيب عبر وسائل التواصل الاجتماعى، ثم ظروف التصويت الواسع بالبريد بسبب وباء كورونا والرغبة فى عدم حدوث تكدس أمام اللجان، ولجوء بعض الولايات إلى تأخير إعلان نتائج الفرز أولا بأول، مما أثار الشكوك فى صحة النتائج.. فضلا عن شخصية الرئيس ترامب الصدامية وتصريحاته الحادة التى نالت من جوهر نزاهة العملية الانتخابية.
ثالثة الحقائق.. أن النظام الديمقراطى الأمريكى هو الذى جاء بدونالد ترامب منذ ٤ سنوات، ولعله يخرجه من السباق ويجىء بمنافسه هذه المرة.. وهو أيضا الذى يتيح له الفرصة لكشف أية مخالفات، وتقديم الطعون أمام المستويات القضائية وصولا إلى المحكمة العليا بغية إبطال ما يتعين إبطاله من نتائج أو صناديق أو أصوات، لا تعبر عن إرادة الناخبين.
رابعتها.. أن التعددية الإعلامية والتنوع فى اتجاهات وسائل الإعلام، هو الذى جعلنا نكشف انحياز شبكة «سى.إن.إن» الواضح للمرشح الديمقراطى بايدن ولو على حساب الحقائق فى بعض الأحيان، وهو أيضا الذى كشف لنا اعتزام شبكة «فوكس نيوز» اليمينية واسعة الانتشار، عدم الاعتراف بفوز بايدن وعدم وصفه بـ«الرئيس المنتخب» حتى ولو فاز، لحين إشعار آخر..!
خامسة الحقائق وأهمها.. أن ترامب وهو على رأس السلطة سيخسر الانتخابات - إلا إذا كان للطعون رأى آخر - وهو أمر لم يسبقه إليه - على ما تعى الذاكرة خلال مائة عام مضت - إلا الرؤساء هربرت هوفر، وجيرالد فورد، وجيمى كارتر، وجورج بوش الأب.
وهذا الحدث قلما تشهده دولة خارج الديمقراطيات الغربية والهند أكبر دولة ديمقراطية فى العالم.
< < <
ليس هدفى أن أكشف عورات النموذج الديمقراطى الأمريكى، حتى لو كان من يرفع عنه الستر هو ساكن البيت الأبيض!
غير أنى أريد أن أقول لمن يهيمن على القرار داخل النظام السياسى الأمريكى: أظن الوقت حان لكى تكفوا عن إعطائنا محاضرات فى الديمقراطية وتلقيننا دروسا عن الحكم الرشيد واحترام حقوق الإنسان، وأن تركزوا جهودكم على سد الثغرات فى جدار الديمقراطية الأمريكية، ووقف أى انتهاك لحق الناخب الأمريكى فى انتخابات نزيهة..!
أما عن عالمنا العربى.. فأتمنى أن يسارع بارتياد طريق الإصلاح السياسى، الذى لا يمكن ولا يصح أن يتحقق إلا بقرارات وطنية تستجيب لإرادة الشعوب.
ولعل مصر - كما هو المأمول منها دائما - تقدم النموذج لعالمنا العربى وللعالم الثالث، فى الإصلاح المنشود، الذى لم تشق الطريق إليه مدافع الدبابات الغازية، ولم ترتفع قواعده على جثة الدولة الوطنية..!
نقلا عن اخبار اليوم.