صراع الكبار على نظام متصدّع.. سيناريوهات محتملة لنظام عالمي جديد
بات واضحا أن تداعيات «الحرب في أوكرانيا»، راحت تستكمل صورة للحقيقة، تفصيلا بعد تفصيل، بأن العالم أصبح على أبواب نظام جديد.. وبقدر ما كان موسم جنازات الزعماء في الاتحاد السوفيتي ـ ليونيد بريجنيف، يوري أندروبوف، قسطنطين تشيرنينكو ـ خلال عامين تقريبا ـ نذيرا لتفكك كتلة الاتحاد السوفيتي وإنفراد الولايات المتحدة بزعامة العالم وترسيخها لنظام القطب الأوحد، بدلا من النظام ذي القطبين، بعد أن وقفت سلطة الاتحاد السوفيتي عند رجال على مستوى بوريس يلتسين وميخائيل غورباتشوف، وعلى أيديهما جاءت نهاية الدولة السوفيتية.
مولد نظام «القطب الواحد»
والشاهد.. أنه بعد انهيار حائط برلين عام 1989، ثم تفكك الاتحاد السوفييتي، أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية عنوانًا عريضًا عن الحالة الكوسمولوجية للكرة الأرضية، وقد أطلقت على المشهد تعبير «النظام العالمي الجديد». وبمعنى أكثر دقة، النظام المهيمن عليه من جانب الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مطلق، ولم يخلُ الأمر من تنظيرات أيديولوجية مغرقة في الأصولية الغربية هذه المرة، من قبيل ما فعله البروفيسور فرانسيس فوكاياما، عبر كتابه الشهير عن «نهاية التاريخ»، عادًّا الرأسمالية هي الحد النهائي للتطور البشري مصادرًا الديالكتيك الطبيعي لطبيعة الأمور وحقائق الأشياء.
متغيرات استراتيجية .. رسائل من روسيا والصين
ثم تبدت متغيرات استراتيجية في روسيا الاتحادية، مع تولي الرئيس فلاديمير بوتين رئاسة الدولة (31 ديسمبر/ كانون الأول 1999)، وما بدا من رغبة جادة لإصلاح ما أفسده الرئيسين السابقين: بوريس بلتيسن وميخائيل غورباتشوف، (بعدما خف تأثير الدولة بمقدار ما خفت قوتها)، وفي محاولة لإحياء النزعة القومية، والعودة إلى سابق نفوذ وقوة الاتحاد السوفيتي، وقد تحقق له ما يسعى إليه، لتتغير صورة المشهد العام داخل روسيا الاتحادية، اتساقا مع مقولة الشاعر والروائي البريطاني أوسكار وايلد «الشخصيات وليست المبادئ هي التي تحرك الزمن»، ثم اتضحت سياسة العودة إلى منافسة النفوذ الأمريكي داخل نظام (القطب الواحد)، وفي نفس الوقت تقريبا تمدد نفوذ الصين عالميا، نفوذ سياسي تحت مظلة نفوذ اقتصادي، ومن دول الجوار الجغرافي، إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، واختراق الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية -اقتصاديا وتجاريا- وكشفت الإدارة الصينية عن مبادرات التوسع والتمدد من خلال مشروع (الحزام والطريق).
كانت مواقف روسيا والصين تستهدف إيصال رسالة إلى الولايات المتحدة بأنها لن تستطيع أن تنفرد بالعالم، وكان هناك إحساس لدى الدولتين بأن الأمريكان يحاولون فرض سيطرتهم على العالم بأكثر من قدرتهم.
وكانت تلك المواقف تخفي هواجس الرفض للنظام العالمي الجديد، تحت هيمنة القطب الأوحد (أمريكا) وبدعم رديفها من الحلفاء الأوروبيين.
صحوة الدب والتنين
ويرى محللون وخبراء أمريكيون، أن روسيا والصين مدينتان للحقبة التي انشغلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بحربها ضد الإرهاب، حيث كان الدب الروسي يعاود وبقوة صحوته كما طائر الفينيق، فيما التنين الصيني يبني إمبراطوريته بهدوء وتؤدة تليقان بأحفاد المُعلم كونفوشيوس، ولعل الخطة الأمريكية للنظام العالمي الجديد الذي ارتأته، كانت تتعارض مع عودة روسيا لسماوات العالمية، وكذا لنمو الصين على نحو يجعل منها شريكًا في قسمة الغرماء.
روسيا كانت ترفض أن تلعب دور المهزوم بعد نهاية الحرب الباردة.
وهكذا.. بعد ثلاثة عقود تقريبا، من سقوط حائط برلين، ولحق به تفكك وانشطار الاتحاد السوفيتي، نجد أمامنا وضعا قابلا للتغيير، والمؤشرات القائمة معيارها وزن الحقائق، وغيره لا يسنده واقع ولا يقوم عليه دليل.. وحقائق القوة وحدها وموازينها هي التي تتولى صياغة النظام العالمي الجديد (ما بعد الحرب في أوكرانيا)، وهذا بدوره سوف يستلزم تغييرات عالمية أساسية – من التحولات في نظام الأمم المتحدة، إلى إعادة هيكلة صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية -وأن يصبح العالم متعدد الأقطاب مما يتطلب المزيد من التعاون الدولي، بحسب تعبير المستشار الألماني، أولاف شولتس، وهو يرى أيضا، أن في ظروف تعدد الأقطاب يسعى الشركاء، الذين يختلفون عن بعضهم البعض بشكل جدي، لتحقيق المزيد من النفوذ السياسي وفق نفوذهم العالمي المتزايد.
ملامح عصر مختلف لاحت بوادره
والثابت أن الفشل الأمريكي في إرساء قواعد نظام عالمي جديد، بات مؤكدًا، كما أن وهم القيادة الأمريكية الأحادية للعالم قد انقشع، وبطلت رؤى المحافظين الجدد، أولئك الذين طرحوا مشروع القرن الأمريكي عام 1997 للسيطرة على مقدرات العالم، بعد أن صدّقوا، وبقناعات مطلقة، خلاصات «فوكاياما» لنهاية التاريخ، وأضحت رؤى «هنتنغتون» عن الصراع الحضاري حول العالم بمنزلة مقدسات وألواح محفوظة.. حتى تبدت ملامح عصر مختلف لاحت بوادره فعلا من خلال ضباب زادت كثافته فوق ساحة المواجهة على الأراضي الأوكرانية، بين روسيا من جانب، والولايات المتحدة وأوروبا الغربية من جانب آخر.
النظام العالمي يحتضر والأمن الأوروبي في مأزق شديد
وتبدو أزمة أوكرانيا كأنها نقطة فاصلة في تاريخ العالم المعاصر، ولا سيما بعد أن فشل الجميع في تحاشي الغزو الروسي، دبلوماسيًّا أول الأمر، ثم وقف الاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر عجزًا عن الحل، إلا من عصا العقوبات الاقتصادية، وهذه كان من الواضح أن القيصر بوتين قد أعد نفسه لها بشكل أو بآخر.. ومع دخول الدبابات الروسية إلى أوكرانيا، وعجز القوة العسكرية الغربية الجبارة عن التصدي والتحدي، بسبب واضح وهو القدرة النووية الروسية، بات من الواضح أن هذا النظام العالمي يحتضر، وأن الأمن الأوربي أضحى في مأزق شديد.
وكان طبيعيا أن يشهد العالم تساؤلات تدور حول: هل أفلس النظام العالمي بشكله المعاصر بعد نحو ثمانية عقود من نهاية الحرب العالمية الثانية؟ وهل نحن أمام ما بعد النظام العالمي الجديد الذي بات متصدّعا، بعد نحو ثلاثة عقود تقريبا، من سقوط حائط برلين؟ وما هي ملامح أو معالم هذا النظام الذي أوشك ان يرى النور، وهو لا يزال يتشكل حتى الساعة؟ ومن سيكتب له النجاح في تشكيل معالم واضحة لنظام جديد؟
التاريخ يعيد نفسه بصياغات جديدة
والحاصل..إذا كانت الحرب العالمية الأولى قد شهدت نهاية الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، وظهور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب تقوده الدول الاستعمارية، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.. وإذا كانت حرب السويس 1956 سجلت نهاية نظام عالمي متعدد الأقطاب تقوده الدول الاستعمارية الأوروبية بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وولادة نظام القطبية الثنائية، الذي قادته الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي..وإذا كانت حرب أفغانستان خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي، قد شهدت نهاية نظام القطبية الثنائية عام 1991، وولادة نظام القطب الواحد، الذي انفردت به الولايات المتحدة.. فإن النزاع الروسي- الأوكراني 2022 سيكون نهاية لنظام القطب الواحد، وولادة نظام متعدد الأقطاب، سيكون فيه لروسيا والصين والاتحاد الأوروبي موقع قيادي بجانب الولايات المتحدة.
الصين وروسيا والهند وأوروبا على قمة النظام العالمي الجديد
في ظل هذا المناخ الدولي الملبّد بمتغيرات ومستجدات وتوترات ساخنة، نجد أن التقارب الروسي- الصيني، يتزايد وتتسارع خطواته، وتتوطد العلاقات بينهما، ويتم الإعلان على لسان وزيري خارجية الدولتين، أن النظام العالمي أحادي القطب «قد انتهى»..وبات واضحا أن روسيا والصين تشرعان ـ بشكل أو بآخر ـ في التحضير لعالم «متعدد الأقطاب»، سوف تكون بداياته فقدان الدولار الأمريكي هيمنته الاقتصادية على العالم، ومعها يفقد الاقتصاد الأمريكي تفرده وصدارته، ويُفتح المجال أمام قوى دولية صاعدة، مثل الصين وروسيا والهند، لتجد لها مكانا في قمة النظام العالمي، ومعها سوف تسعى أوروبا إلى الاستقلال العسكري عن الولايات المتحدة الأمريكية، وتشكل جيشا موحدا، وبذلك تكون أوروبا قطبا عالميا مستقلا وليس تابعا للولايات المتحدة.
نظام عالمي عادل ومتعدد الأقطاب
والتوجه الروسي والصيني، كشف عنه بوضوح وزير خارجية الاتحاد الروسي، سيرجي لافروف (في يوم الأربعاء 30 مارس/ آذار 2022 )، معلنا في مدينة «تونشي» شرق الصين، أن كلا من الصين وروسيا يعتزمان السير قدما نحو «نظام عالمي عادل ومتعدد الأقطاب»..وقال «لافروف»، إن روسيا والصين وشركاءهما سيتحركون معا نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب وعادل، بناء على نتائج المرحلة الخطيرة التي يمر بها تاريخ العلاقات الدولية.
وأكد «لافروف» مرة أخرى، أننا «نمر بمرحلة خطيرة للغاية في تاريخ العلاقات الدولية. وأنا مقتنع بأنه في أعقاب هذه المرحلة، ستتضح ملامح الوضع الدولي بشكل كبير وسنتحرك معكم، ومع شركاء آخرين في الرأي، نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب وعادل وديمقراطي».
المؤشرات والنتائج الأولية
لا يمكن القطع بمآلات النظام الدولي في ظل الأزمة الأوكرانية، لكن وفي كل الأحول تبدو النتائج الأولية واضحة:
تراجع في النفوذ الأميركي، عبر لحظة تتساوى مع نهاية الاتحاد السوفييتي حين سقط جدار برلين، ونهاية استسلام واشنطن لزمن الغطرسة الليبرالية.. في الوقت عينه تجري محاولات من جانب القيصر بوتين لإحياء القومية السلافية.
أما الصين فقد يكون التوقيت الذي تحدث عنه رئيس وزرائها الأسبق دينغ شياو بينغ قد حان، والمقولة المنسوبة إليه هي «أَخْفِ قوتَك وانتظر الوقت المناسب».
وضمن المَشاهد التي تشي بأن العالم القديم إلى زوال، والجديد منه غير قادر على التشكل بعد، يأتي مشهد القارة الأوربية، التي أماطت الأزمة الأوكرانية اللثام عن نقاط ضعفها. وتبدو أوربا على خريطة العالم الجديد ككرة تتقاذفها الأهواء والأنواء، فمن جهة لا تزال جزءًا من حلف الناتو، الذي عدّه كثير من الأوربيين، قد مات موتًا سريريًّا، وذلك قبل أن تضخ الأزمة الأوكرانية في شرايينه بعض الدماء.
ومن جهة أخرى أظهر العقد الثاني من القرن الحالي أن هناك ميولًا أوربية لدعم فكرة القارة الأوراسية، أي تخليق نوع من أنواع التعاون الجغرافي والديموغرافي، يبدأ من عند حدود المحيط الأطلسي غربًا، ويمتد حتى جبال الأورال شرقًا في آسيا، وهي فكرة الرئيس الفرنسي الأشهر شارل ديغول في ستينيات القرن الماضي.. وكشفت الأزمة الأوكرانية قصورًا واضحًا في الرؤية الأوربية للتعامل مع الأزمات، وبخاصة في ظل اعتماد أغلبية دول القارة على الغاز والنفط الروسيين، إضافة إلى عدم وحدة التوجه العسكري للدفاع عن القارة، بعيدًا عن الاعتماد على حلف الناتو.
واعتبر رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، سيلفيو برلسكوني، في مقال نشره في صحيفة «جورنالي» 6/ 4/ 2022، أن أحداث أوكرانيا كشفت عزلة الغرب عن بقية العالم ـ مؤشر لمناخ جديد بدأ يخيم على المشهد العام في العالم، وينبىء بتقلصات مولد نظام عالمي جديد ـ وخلص السياسي الإيطالي المخضرم إلى أن «ما أظهرته لنا الأزمة الأوكرانية هو مؤشر مقلق للحاضر وخاصة للمستقبل. روسيا معزولة عن الغرب، لكن الغرب معزول عن بقية العالم».
ويرى المفكر والخبير العربي، د. جاسم المناعي، الرئيس السابق لصندوق النقد العربي، أنحرب أوكرانيا تأتي لتؤسس لنمط جديد في العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية. فعلى الصعيد السياسي يمكن أن نشهد مزيداً من الاستقطاب بين الكتلة الغربية ممثلة في أمريكا والاتحاد الأوروبي من جانب وبين الكتلة الشرقية ممثلة في روسيا وإلى حد ما الصين من جانب آخر. وللأسف فإن مزيداً من الاستقطاب بين هاتين الكتلتين من شأنه زيادة التوترات السياسية العالمية، هذا إذا لم يجر ذلك إلى تصعيد أكبر في شكل صراعات مباشرة أو حتى حروب عالمية.
أما على الصعيد الاقتصادي فإن حرب أوكرانيا قد أدت بالفعل إلى تحول كبير في حركة التجارة والاستثمار والتحويلات المالية وأسعار الصرف، هذا إضافة إلى زيادة كبيرة في معدلات التضخم نتيجة لارتفاع أسعار النفط والغاز والمشتقات البترولية الأخرى وكذلك أسعار المحاصيل الغذائية مثل القمح والشعير والذرة والزيوت النباتية.
على كل حال فإن هذه التحولات الهامة سواء السياسية منها أو الاقتصادية لا شك في أنها سوف تخلق واقعاً عالمياً جديداً أو إذا لم نكن نبالغ فإننا قد نكون بصدد نظام عالمي جديد.
العالم يشهد تقلصات الميلاد..أما مولد النظام العالمي الجديد، واستقرار ملامحه الجديدة (سياسيا واقتصاديا وماليا، ومعادلة جديدة لتوازنات القوى)، ربما يستغرق عشر سنوات، أو أكثر قليلا.