عالم متعدد الأقطاب .. تحول راديكالي في النظام العالمي
بعد أكثر من ثلاثة عقود من الجهود الأمريكية لتأسيس وتعزيز نظام دولي أحادي القطب، نشهد علامات تدهور النظام الدولي المتمركز حول أمريكا وتشكيل نظام دولي جديد.. والشواهد والوقائع وتطورات المستجدات العالمية، تؤكد أن الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي من جانب، وكل من الصين وروسيا من جانب آخر، يدور على شيء لم يعد قائماً، وهو النظام العالمي الذي تريد واشنطن تعزيزه، وتعمل بكين وموسكو على تغييره.. وبينما نطق المستشار الألماني، أولاف شولتز، أمام، منتدى دافوس الاقتصادي (26 مايو/ آيار 2022 في سويسرا)، بكلمة «تعدد الأقطاب» التي تكشف عن إقرار الغرب بالحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب، وعندما يتحدث زعيم دولة أوروبية عن التعددية القطبية، فإنه يضع في اعتباره إعادة هيكلة العلاقات الدولية.
ومصطلح «تعدد الأقطاب» هو في الواقع جزء من خطاب السياسة الخارجية الذي يعيد إنتاجه الدبلوماسيون والسياسيون في القارة العجوز (أوروبا).
قلق أمريكي من مولد نظام عالمي جديد
الولايات المتحدة بدورها كشفت عن هواجس القلق من تشكيل نظام عالمي جديد، واعتبر وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أن بلاده تخوض منافسة قوية مع الصين هدفها الحفاظ على النظام الدولي الحالي.. وقال في خطاب بجامعة جورج واشنطن (26 مايو/ آيار 2022): «إن الصين تشكل أخطر تهديد طويل الأمد للنظام الدولي، وهي الدولة الوحيدة التي ـ إلى جانب الرغبة الجادة لإعادة تشكيل النظام الدولي ـ تملك القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية المؤهلة للقيام بذلك».
واعترف بلينكن بــ«العجز عن تغيير مسار الصين وطموحات الزعيم الصيني، شي جين بينغ»، لكنه يصر على السعي لـ«تفكيك البنية الاستراتيجية حول الصين على نحو يعزز رؤيتنا لنظام دولي مفتوح وشامل من دون خوض حرب باردة جديدة».. وبينما تتساءل الدكتورة إليزابيث إيكونومي، الباحثة بمعهد هوفر في جامعة ستانفورد: «هل يريد الزعيم الصيني «شي» تشكيل نظام عالمي جديد، أم مجرد تعديلات على النظام القائم لحماية الصين من انتقاد نظامها السياسي؟»، ثم أجابت: «ما يريده هو تحول راديكالي في النظام العالمي».
القطب العالمي الأوحد غير قادر على ممارسة دوره
ثم جاءت الأزمة الأوكرانية، ليكتشف العالم أن القطب العالمي الأوحد (أمريكا) غير قادر على ممارسة دوره، حيث فَقَدَ قوة الردع، التي كان يجب أن تمنع روسيا من دخول نزاع عسكري مع أوكرانيا، فيما فقد هذا القطب القدرة على المواجهة المباشرة في هذا النزاع، واكتفى بأضعف الوسائل ـ الحصار الاقتصادي والإعلامي والثقافي والرياضي ـ وحتى في هذه كانت الآثار السلبية للعقوبات الغربية على روسيا أشد تأثيرا على اقتصادات أوروبا وأمريكا بدرجة تجعلها سلاحا ذا حدّين لا يمكن استخدامه لفترات زمنية طويلة.
اللافت.. بينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتراجع عن القيام بما كانت قادرة على القيام به بعد انتصارها الساحق في الحرب العالمية الثانية، تبدو كأنها قوة عظمى كانت مسيطرة، لكنها بدأت تغرب عن أراضي النفوذ التقليدي، وإذا بالصين تظهر على شاشات الرادارات العالمية، إن جاز التعبير، لتعيد سيرة ومسيرة نشوء وارتقاء الإمبراطوريات تاريخيًّا.
حلف استراتيجي (روسي ـ صيني) يهدد نظام القطب الواحد
وحين أدرك الغرب قوة الصين الصاعدة وانعكاسها على هيكل النظام الدولي، مع تمددها في أسواق أفريقيا وأمريكا الجنوبية باتفاقات طويلة المدى، بدأت تتحرك لعرقلة هذا التمدد..وهذه الحقيقة ظهرت واضحة، خصوصاً بعد أزمات مالية عالمية منذ نهاية العام 2008، ودفعت القوى الغربية، خاصة أمريكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، للتحرك في محاولة لمحاصرة النمو المتسارع للاقتصاد الصيني، وفك الارتباط بينه وبين روسيا، ذلك الترابط الذي يؤشر إلى بروز حلف استراتيجي يهدد نظام القطب الواحد، المتمثل في الولايات المتحدة، وخلفها الانفراد الحضاري الغربي في العالم.
وبهذه الرؤية ، صارت المصالح الكبرى للعالم الغربي تتمثل في احتواء الصين وروسيا والهند، تلك القوى التي ربما تزيح العالم الغربي – بما فيه أوروبا وأمريكا – من الصدارة، وتعيد قيادة العالم إلى آسيا بعد أن انتقلت منها منذ قرنين من الزمان مع الثورة الصناعية إلى أوروبا وامتداداتها في أمريكا الشمالية.
استراتيجية أمريكية لإرباك الصين والهند وروسيا
في هذا السياق جاء الانسحاب الأمريكي المتعجل والعشوائي من أفغانستان على أمل خلق بؤرة توتر جديدة تجتمع فيها الحركات الإرهابية لإرباك الصين والهند وروسيا.. وبرزت الرؤية الاستراتيجية، التي تهدف إلى نقل منطقة التوتر الأشد سخونة من الشرق الأوسط إلى وسط آسيا، ويأتي هذا في إطار التحول الاستراتيجي الكبير للإدارة الأمريكية من أوراسيا/ شمال الكرة الأرضية، إلى المحيط الهادي.. ثم كان التدخل الأمريكي في أفريقيا، بوسائل متعددة، لخلق بؤر توتر تعرقل تمدد المصالح الصينية في مناطق مثل دول الساحل «مالي وبوركينافاسو والنيجر وتشاد»، من هنا أيضا يمكن فهم تعدد الانقلابات العسكرية في دول الساحل وغرب أفريقيا، خصوصا تلك التي انخرطت قياداتها في علاقات عميقة مع الصين، مثل الرئيس الغيني، ألفا كوندي، الذي تم الانقلاب عليه في 5 سبتمبر/ أيلول 2021 بعد توقيعه عقد تصدير طويل الأمد لخام الألومنيوم مع الصين.
تحولات هامة سياسية واقتصادية سوف تخلق واقعاً عالمياً جديداً
وبات واضحا.. أن التحولات الهامة لحرب أوكرانيا سوف تظهر بشكل عام في الاقتصاد العالمي، الذي شهد ـ بالفعل ـ تحولات كبيرة أيضاً ممثلة في ارتفاع معدلات التضخم مع احتمال تضاؤل أو انكماش معدلات النمو الاقتصادي الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى مرحلة من الركود التضخمي التي قد تأتي للأسف في وقت والعالم يتوقع التعافي من تبعات جائحة كورونا.. ومن التحولات الأخرى الهامة أيضاً على صعيد الاقتصاد العالمي نتيجة لحرب أوكرانيا، زيادة الإنفاقات سواء للمساعدات الإنسانية والعسكرية أو لتعزيز القدرات الدفاعية أو حتى لتحمّل تبعات ومساعدة اللاجئين من هذه الحرب، ومثل هذه التكاليف من شأنها زيادة مديونية الدول المعنية في أوروبا والتي هي مرتفعة أصلاً.
وهذه التحولات الهامة سواء السياسية منها أو الاقتصادية لا شك في أنها سوف تخلق واقعاً عالمياً جديداً.
العالم على موعد (قريب) مع نظام عالمي جديد
ويرى سياسيون وخبراء في الشؤون الدولية، أن العالم على موعد (قريب) مع نظام عالمي جديد، بعد أن فقد النظام العالمي الحالي دوره في حرب أوكرانيا، ولم يكن مجلس الأمن ـ مثلا ـ قادرا على مجرد إصدار قرار بوقف إطلاق النار في أوكرانيا.. ثم من يصدق أن الولايات المتحدة التي لم تواجه روسيا مباشرة في حرب أوكرانيا ستدخل مباشرة في حرب مع الصين دفاعاً عن تايوان وضد سياسة «صين واحدة»، التي اعترفت بها واشنطن في انفتاحها على الصين أيام ماوتسي تونغ ونيكسون وكيسينجر؟ وتعبيرا عن حقيقة هذا الواقع، كان موقف الصين محددا على لسان كبير الدبلوماسيين الصينيين، يانغ جيه تشي، عضو مجلس الدولة، للوفد الأمريكي ، في أول محادثات مباشرة بين الصين وأمريكا في أنكوريج بولاية ألاسكا (ربيع 2021): «لستم مؤهلين لمخاطبة الصين من موقع قوة».
متغيرات على هامش التحول لنظام عالمي جديد
وفي الجملة.. كان هناك احتمال معلق بظنون مسبقة، عن مولد نظام عالمي جديد (متعدد الأقطاب).. وكانت هناك مؤشرات ودلالات ومستجدات، تنبىء بأن هناك متغيرات سوف تفرض نفسها على العالم.. وأن ما كان لم يعد كما كان.. ويدفع البعض بأن هناك قوانين للتاريخ، وهذه القوانين تعمل أحكامها إذا تجمعت عناصر وعوامل تستدعي مثل هذه الأحكام ـ وفي إشارة إلى تداعيات الحرب في اوكرانيا ـ وقبل الحرب تبدت تلك الدلالات والمؤشرات:
1 ـ الترويج فى السنوات الأخيرة لفكرة نهاية «الجيوبولتيكس» أو الجغرافيا السياسية، بمعنى تضاؤل أهمية التفاعلات الدولية التى ترتكز على الموقع الجغرافى والسيطرة على مساحات من الأرض، وتم تبنى مقولة إن التفاعلات الدولية الحديثة أصبحت تضع فى أولوياتها البُعد الاقتصادى وثورة التكنولوجيا والاتصالات، والتى لا تعرف معنى المساحات الجغرافية، وأن الأمن القومى يرتبط بالاقتصاد والتكنولوجيا وليس بالجغرافيا.. ولكن جاءت أزمة أوكرانيا لتؤكد أهمية الجغرافيا، فمطالب روسيا بشأن عدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلنطى ترتبط بجوارها الجغرافى مع روسيا مما يشكل تهديدًا لأمنها القومى فى حالة تمركز قوات «الناتو» على حدودها.. وكان واضحا أن التدخل العسكرى الروسى فى أوكرانيا استهدف السيطرة على النطاق الجغرافي الذي يمكن أن يمثل مصدرًا للتهديد، والعمل على تحييده.
2 ـ تراجع العولمة: مثّلت «العولمة» الإطار الأيديولوجي للحركة الاقتصادية للعالم خلال العقود الأخيرة، وقد اعتمدت على فكرة الاندماج الاقتصادي والاعتماد المتبادل بين الدول، واحترام القواعد المتعلقة بالتجارة وحركة السلع والخدمات، وعدم تسييس العلاقات الاقتصادية.. ولكن السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا في حركة العولمة، كان منه خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبى، إلى جانب السياسات الحمائية والعقابية التى اتبعها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كما أثرت جائحة كورونا أيضًا على العولمة الاقتصادية.
وشكّلت العقوبات الاقتصادية القاسية، التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وحلفاؤهما على روسيا فى إطار الأزمة الأوكرانية، تراجعًا كبيرا فى ظاهرة العولمة، وخاصة العقوبات التى استهدفت البنوك الروسية بهدف تجميد الأصول المحتفَظ بها فى المؤسسات المالية الأمريكية وإعاقة قدرتها على العمل داخل النظام المالى العالمى، وتشجيع الشركات الغربية على المغادرة، وإغلاق المجال الجوى الأوروبى للطائرات الروسية وحظر وسائل الإعلام الروسية من الفضاء الإعلامي التقليدي والإلكتروني.
وكل هذه العقوبات أسهمت فى المزيد من تراجع ظاهرة العولمة، وطرح البعض فكرة الحاجة إلى قواعد جديدة للنظام الاقتصادي الدولي.
3 ـ استقلالية الطاقة واستقلالية الغذاء: بعد الحظر النفطي العربي على الولايات المتحدة عام 1973، تبنّت الإدارات الأمريكية المتلاحقة هدف تحقيق «استقلالية الطاقة» من خلال زيادة الإنتاج المحلي وبرامج الطاقة البديلة. ولكن مع أزمة أوكرانيا ظهر للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى أن هدف استقلالية الطاقة مازال بعيد المنال، ومن ثَمَّ ستضعه ضمن أولوياتها فى السنوات القادمة. ونفس الأمر بالنسبة للدول المستوردة للغذاء، وخاصة القمح، فبالتأكيد سوف تسعى لتحقيق قدر من الاستقلالية فى الغذاء.
4 ـ التوجه نحو أوروبا والاحتواء المزدوج: ترفع الولايات المتحدة منذ إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما شعار «التوجه نحو آسيا»، وذلك لمواجهة ما تعتبره الخطر الصينى، ولكن أعادت أزمة أوكرانيا إلى الأذهان أن «قضية الأمن الأوروبى لم يتم حسمها بعد»، وقامت الولايات المتحدة بإرسال قوات أمريكية إلى المسرح الأوروبى وقدمت مساعدات ضخمة للحكومة الأوكرانية..ولكن كشفت الأزمة الأوكرانية أيضًا عن توافق فى بعض الرؤى بين روسيا والصين، والذى ظهر بشكل واضح فى البيان الصادر عن القمة الصينية الروسية فى ٤ فبراير/ شباط 2022، حيث أشار الطرفان إلى معارضتها المزيد من توسيع الناتو، ودعوتهما حلف شمال الأطلنطى إلى التخلى عن المقاربة الأيديولوجية للحرب الباردة، وأن الجانب الصينى متعاطف وداعم للمقترحات التي طرحها الاتحاد الروسي لإنشاء ضمانات أمنية ملزمة طويلة الأجل فى أوروبا.
هذا التوافق الصينى الروسى سوف يجعل الولايات المتحدة تضيف توجهًا جديدًا نحو أوروبا، بالإضافة إلى التوجه القائم نحو آسيا، وربما تتبنى سياسة للاحتواء المزدوج لكل من الصين وروسيا.
تحديات اقتصادية تضرب أوروبا
وفي حقيقة الأمر..يشهد العالم ـ مع تداعيات الحرب في اوكرانيا ـ تقلصات تنبىء بأننا على أبواب مولد نظام عالمي جديد، وأن هناك شواهد بدأت تلوح في الأفق، وتعلن عن نفسها ، وفي المقدمة أزمات اقتصادية، سوف تنعكس تطوراتها بالضرورة على الوضع السياسي للقارة العجوز (أوروبا).. وقد وضعت الحرب الأوكرانية ـ منذ 24 فبراير/ شباط 2022 ـ الدول الأوروبية أمام تحديات كبري علي صعيد الطاقة والثروات ، تهدد اقتصاد الغرب بالمزيد من الركود، وهي تحديات دفعت نائب رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي، فرانس تيمرمانز، لمطالبة مواطنى الاتحاد إلى خفض درجة حرارة التدفئة قليلا فى الشتاء وعدم تشغيل التكييف في وقت مبكر جدا في الصيف!!
وتعتبر أزمة الغاز الروسي أكثر ما يؤثر على الاقتصاد الأوروبي، مع عدم وجود خطط سريعة للاستغناء عنه، مما يجعل أمر الاستقرار الاقتصادى صعبا للغاية ، وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبى يواصل زيادة التزامه بخفض استهلاك الطاقة، وزيادة استقلاليته عن الإمداد الروسي من خلال مصادر الطاقة المتجددة، إلا أن هذا لن يتم إلا بحلول عام 2027
ومقاطعة أمريكا وأوروبا لروسيا اقتصادياً سوف يؤدي إلى تأسيس علاقات اقتصادية وتجارية جديدة، حيث إن عزل روسيا عن منظمات دولية مثل منظمة التجارة العالمية أو بنك التسويات الدولية أو نظام المدفوعات العالمي من شأنه أن يزيد من الهوة التي بدأت تتسع أصلاً بين أهم الدول والكتل الاقتصادية الكبرى، مما سيضعف بالتبعية من نظام العولمة الذي عرفه العالم خلال الفترة الماضية.
وسواء تحدثنا عن التداعيات السياسية أو الاقتصادية لحرب أوكرانيا، فإننا بالتأكيد سوف نشهد تلاشي أو انعدام الثقة خاصة بين أوروبا وروسيا وسوف ينعكس هذا الأمر في سعي أوروبا إلى تعزيز دفاعاتها العسكري، وقد بدأت ألمانيا بالفعل في اتخاذ خطوات في هذا الاتجاه نحو تحديث وتعزيز نظامها العسكري وزيادة مخصصات الميزانية لهذا الغرض . ويعتبر مثل هذا الإجراء تحولاً كبيراً في سياسة ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية.
اختلالات مخيفة في الهوية الأوربية
واللافت أن هناك أصواتا عديدة في الداخل الأوربي، ارتفعت بالتساؤل عن المدى الذي يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تساند به القارة العجوز، حال تعرضها لأزمة مصيرية حقيقية، أو مواجهة عسكرية شرسة مع الروس.. الجواب عند العارفين بالمشهد الأمريكي، هو أن ذلك لن يحدث، ولا سيما في ظل التغيرات المثيرة جدًّا في الداخل الأمريكي، تلك التي تبدأ من عند الارتدادات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية الأمريكية على روسيا، وصولًا إلى الحالة المجتمعية الداخلية، والصراعات القائمة في النسيج الوطني، وهو الأمر الذي أوضحه فوكاياما في كتابه الأخير «الهوية مطلب الكرامة وسياسة الامتعاض»..ومن جهة أخرى يرى المُنظّر الأمريكي للسياسات الخارجية، ريتشارد هاس، أن أوربا تحولت إلى شيء مختلف تمامًا، ولم تعد مبادئ الديمقراطية والازدهار والسلام راسخة بقوة فيها، كما بدا قبل ذلك، وبخاصة في ظل تصاعد المد اليميني والقومي والشوفيني، وهو ما أفرز ويفرز شعبويات قاتلة واختلالات مخيفة في الهوية الأوربية.
مرحلة تحدي الولايات المتحدة
وهكذا.. أوضحت الأزمة الأوكرانية حدود القوة الأمريكية، والتى ظهرت بشكل أساسى فى استبعاد الخيار العسكري، وتبنى نهج العقوبات الاقتصادية..وقد ذكر الرئيس بايدن أنه «لا يتوقع أحد أن تمنع العقوبات أى شىء من الحدوث» وأن تأثير العقوبات «سيستغرق وقتًا».. وبينما يعتقد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن القوة الأمريكية فى حالة تراجع، وأن التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها أصابه ضعف كبير، كما اتضح فى هرولة الخروج من أفغانستان، وتنامى توجهات العزلة فى الداخل الأمريكى.
وهنا يمكن الإشارة إلى أن تحدى الولايات المتحدة فى هذه اللحظة التاريخية لن يقتصر فقط على روسيا، وسوف تسعى دول أخرى (كبرى وإقليمية) إلى اختبار حدود القوة الأمريكية، وإظهار التراجع الأمريكي كقوة عظمى، وهو أمر ستكون له نتائج طويلة المدى فيما يتعلق بموازين القوى فى النظام الدولي.
هذه بعض ملامح عالم ما بعد الحرب في أوكرانيا، وبالتأكيد سوف يكون لها تأثير علينا ـ داخل الإقليم العربي ـ بما أننا جزء من هذا العالم.