ثورة فلسطين الكبرى.. رسائل ودلالات
قبل 87 عاما كان موعد فلسطين لمواجهة حركة تآمرات دولية، فاشتعلت «الثورة الكبرى»، حين كان التخطيط البريطاني لترتيب أمور الشام ينتقل بسرعة للتركيز على فلسطين، وبالتحديد للعمل على إقامة وطن لليهود فيها، يؤدي دوره المرسوم في الإستراتيجية البريطانية !! وأثناء الحرب العالمية الأولى طلبت الحكومة البريطانية سنة 1915 من السير «هربرت صمويل» أن يضع تصورا لما ينبغي أن يكون عليه أمر فلسطين بعد النصر، وكتب «هربرت صمويل» بوصفه عضوا في وزارة الحرب ـ إلى جانب كونه يهوديا وصهيونيا أيضا ـ مذكرة بعنوان «مستقبل فلسطين » تاريخها 5 فبراير/ شباط 1915، توصل فيها إلى نتيجتين : إحداهما : إن الحل الذي يوفر أكبر فرصة للنجاح ولضمان المصالح البريطانية، هو إقامة اتحاد يهودي كبير تحت السيادة البريطانية في فلسطين.. وأن فلسطين يجب أن توضع بعد الحرب تحت السيطرة البريطانية، ويستطيع الحكم البريطاني فيها أن يعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية في شراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة والمساعدة على التطور الاقتصادي بحيث يتمكن اليهود من أن يصبحوا أكثرية في البلاد!
وكانت تلك هي الظروف والأجواء التي صدر فيها «وعد بلفور» الشهير في 2 نوفمبر 1917 .. وأثناء إعداد وثائق مؤتمر السلام في «فرساي» 1919 أصرّت الحركة الصهيونية على ضرورة أن يتضمن قرار المؤتمر، الخاص بانتداب بريطانيا على فلسطين، إشارة واضحة في مقدمته لـ «وعد بلفور» تأكيدا إضافيا بأن المهمة الرئيسية للانتداب البريطاني هي العمل على إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين !!.ولم يكن في القدس قبل وعد بلفور غير 30.000 يهودي اندمج معظمهم مع أصحاب الأرض من الفلسطينيين، وتحدثوا لغتهم ومارسوا عاداتهم.. ومع الإنتداب البريطاني لفلسطين فتحت الأبواب على مصراعيها أمام هجرة اليهود!
تطورات مسار الثورة الفلسطينية الكبرى
وفي هذه الأجواء، كان الصراع على الشرق الأوسط وفيه ما زال مستمرا. وقصته مفتوحة.. وأدرك الفلسطينيون حجم المؤامرة التي تحيط بالوطن، ودور السياسة البريطانية التي تلعب بأقدار المنطقة وبمن عليها، وأن الحارس الواقف على بوابات فلسطين بالانتداب حتى هذه اللحظة، يمهد الأرض للمستوطنين اليهود والأفواج القادمة منهم، ويغض الطرف تماما عن العمليات الإرهابية العدوانية وممارسات العصابات الصهيونية.. فاندلعت نيران الثورة في فلسطين مع حادث 17 أبريل/ نيسان 1936 حين قتل اليهود إثنين من العمال الفلسطينيين قرب نهر العرجا بقضاء يافا، وبعد يومين قامت مظاهرات بمدينة يافا، وهاجم المتظاهرون الأحياء اليهودية، وقتلوا وجرحوا ستين يهوديا.
إضراب عام لم يسبق له مثيل في الوطن العربي
وتدخل البوليس البريطاني، واشتبك مع المواطنين الفلسطينيين، وفرض نظام منع التجول، واستشهد فلسطينيان، وأعلن الشعب العربي في فلسطين الإضراب العام الذي إستمر 176 يوما، إضرابا عاما لم يسبق له مثيل في الوطن العربي، قدم الشعب الفلسطيني خلاله أقصى ما يمكن أن يقدمه شعب مستميت في البسالة والتضحية والثبات والصبر..وكانت بداية الإضراب حين قرر المواطنون في يافا ـ في إجتماع عقده فريق منهم في 20 أبريل/ نيسان 1936 ـ الإضراب العام «برا وبحرا» وأصدروا بيانا وافقت عليه جميع المدن والقرى في فلسطين.
وشمل الإضراب جميع مرافق الحياة الإقتصادية والإجتماعية، فأغلقت جميع المخازن والمصانع والمقاهي، وتوقفت الحركة التجارية، فلم يرق ذلك لحكومة الانتداب البريطاني، وحاولت إرغام التجار على فتح مخازنهم، فنقلوا بضائعهم إلى بيوتهم، وكتب عدد منهم على مخازنهم «برسم الإجار والمخابرة مع الحكومة !!»، وعزم آخرون على تسليم مفاتيح المخازن إلى الحكومة إن أصرت على فتحها، وقرر المحامون العرب في إجتماع عقدوه في مدينة «يافا» الإضراب، وعدم حضور المحاكمات إلا للمرافعة في القضايا الناشئة عن الإضراب والحركة الوطنية.
وعقد رؤساء البلديات اجتماعا سريا في بيت رئيس بلدية رام الله، في 31 مايو/ آيار، وقرروا إيقاف أعمال البلديات، وإستثنوا من ذلك أعمال التنظيف حفظا للصحة العامة، إلا أن (عمال الكنس) أصروا على المشاركة في الإضراب، وساءت حالة المدن، فخابرت حكومة الإنتداب أحد مشايخ شرق الأردن ليرسل رجاله للقيام بأعمال «كنس» مدينة القدس، فأجاب ذلك الشيخ قائلا : (ليس رجالي أقل وطنية من «كناسي» مدينة القدس) ..رغم أن تلك القبيلة كانت في فقر مدقع وحالة يرثى لها، وكان المبلغ الذي عرضته عليها حكومة الإنتداب مغريا وكبيرا..وخشيت الهيئات الوطنية من إنتشار الأمراض فأقنعت «الكناسين» بأن الواجب يطالبهم بالعودة إلى أعمالهم، فعادوا إلى تنظيف المدن ليلا حتى لا يشوهوا الإضراب العام.
تأسيس «لجنة عربية عليا» لتوحيد قيادة الثورة
وتركت الأحزاب السياسية تخاصمها، وإجتمع رؤسائها وقرروا تأسيس «لجنة عربية عليا» لتوحيد القيادة، وللإشراف على الحركة الوطنية، وتألفت اللجنة العربية العليا من رؤساء الأحزاب الخمسة، وخمسة آخرين من رجالات البلاد.. وكان أعضاء اللجنة كل من : الحاج أمين الحسيني، راغب النشاشيبي، أحمد حلمي عبد الباقي، الدكتور حسن الخالدي، يعقوب فراج، عوني عبد الهادي، عبد اللطيف صلاح، الفرد روك، جمال الحسيني، ويعقوب الغصين .. وانتخب السيد أمين الحسيني «مفتي فلسطين» رئيسا، والسيد أحمد حلمي عبد الباقي أمينا للصندوق، والسيد عوني عبد الهادي سكرتيرا، وأعتقل السيد عوني فانتخب مكانه السيد دروزة ، وأعتقل أيضا، فانتخب السيد فؤاد سابا خلفا له.
وأخذ الإضراب السلمي يتسع رغم تعسف البوليس البريطاني واعتداءاته على الشعب الفلسطيني، والتمادي في سياسة الاعتقال والحبس.. وظهرت عمليات مسلحة للمقاومة الفلسطينية قادها الشيخ عزالدين القسام والذي أستشهد في معارك الثورة، وحمل معظم القرويين وكثير من أهل المدن السلاح، وأخذوا يقاومون القوة بالقوة، وكان القتال في كل مكان في الليل والنهار.
تصاعد المواجهات على مدى 3 سنوات من ثورة فلسطين الكبرى
وتصاعدت حدة المواجهة في منطقة القدس «معركة باب الواد»، و في سائر فلسطين : «معركة نور شمس»، و «معركة عين جارود»، و«معركة وادي عزون»، و«معركة بلعا الأولى» .. وعندما دخل فوزي القاوقجي فلسطين في الثلث الأخير من شهر أغسطس/ آب 1936، دخلت الثورة في دورها الثاني، وبعد أن استلم الجنرال (ديل) القيادة العليا للقوى البريطانية في فلسطين وشرق الأردن وجعل مركزها القدس.
ودارت معارك «نور شمس عنبتا»، و«ترشيحا» و«جبع»، و«حلحول»، ومعركة «برقة ـ بيت أمرين» ، ومعركة «الخضر»، ومعركة «كفر صور»، وغيرها.. وتمددت ثورة شعب متوحد الصفوف دفاعا عن سيادة فلسطين عربية، وإنقاذها من مطامع الصهيونية .
ولجأت حكومة الإنتداب البريطاني إلى عنف المواجهة، وفرض الغرامات، ومصادرة الأموال والأملاك، والتفتيش وإلقاء القبض والإعتقال لمجرد الشبهة، وتم نسف قسم كبير من مدينة يافا القديمة، وأحرق اليهود عشرات المنازل للفلسطينيين، معظمها في منطقة تجاور تل أبيب.
تدخل عربي لتهدئة نيران الثورة
وتأججت نيران الثورة ، وتدخل ملوك العرب وأمرائهم، بتوجيه نداء إلى اللجنة العربية العليا، بإعطاء فرصة للحكومة البريطانية لإعادة تقييم الأمور !! واستجابت اللجنة العربية العليا في 31 أغسطس/ آب 1936 لنداء الوساطة العربية، وهذا نصه : «إلى أبنائنا عرب فلسطين، لقد تألمنا كثيرا للحالة السائدة في فلسطين، فنحن بالإتفاق مع إخواننا ملوك العرب والأمير عبد الله، ندعوكم للإخلاد إلى السكينة حقنا للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم»!
أسفرت الثورة عن استقلال مشروط لدولة فلسطين
ولم تفعل الحكومة البريطانية «الصديقة للعرب» شيئا، وعادت نيران الثورة تتأجج مرة أخرى، وتواصلت على مدى ثلاث سنوات، حتى أضطرت الحكومة البريطانية إلى عقد مؤتمر دولي في لندن سنة 1938 بمشاركة بعض الدول العربية، وأصدرت بريطانيا وثيقة تحمل عنوان «كتاب أبيض» سنة 1939 يشرح تصورها لحل المشكلة الفلسطينية، ويتضمن استقلالا مشروطا لدولة فلسطينية بعد فترة إنتقالية مدتها عشر سنوات، مع السماح بدخول 15 ألف مهاجر يهودي كل سنة إلى فلسطين لمدة خمس سنوات.