مصطفى الفقى يكتب: مدرسة الدبلوماسية المصرية
يتصور الكثيرون أن الجهاز الدبلوماسى المصرى قد ولد بالتصريح البريطانى فى 28 فبراير عام 1922 الذى يشير إلى استقلال نسبى لمصر مع التحفظات الأربعة المعروفة، وحقيقة الأمر أن الدبلوماسية المصرية أسبق من ذلك وأعرق لا أريد أن أقول إنها بدأت مع الكاتب المصرى ورسائل الفراعين وملوك الأسر المختلفة لخصومهم وأصدقائهم فى أزمنة الحب والسلام مع الدولة المصرية القديمة، ولكننى أريد أن أذكر فقط بديوان الأمور الأفرنكية الذى أمر بإنشائه محمد على أول حاكم للدولة المصرية الحديثة مع مطلع القرن التاسع عشر، وسوف نلاحظ دائمًا أن الشئون الأفرنكية قد ارتبطت بملف الترجمة وأهميته فى ديوان الحاكم بل إن مصر تبادلت المبعوثين والقناصل مع عدد من الدول الأوروبية تأكيدًا لاستقلال المملكة المصرية بعد أن أصبح فؤاد الأول ملكًا بعد أن كان سلطانًا.
ومع بدايات عام 1923 كان الجهاز الدبلوماسى المصرى يحاول الوقوف على قدمين ثابتتين أولاهما الشخصية المصرية المعروفة دوليًا، والثانية هى الخبرة المتراكمة فى العقل المصرى ورؤيته للعالم وفهمه لمعنى التعاون الدولى، وظهرت أسماء بعد ذلك لدبلوماسيين صغار يبدأون السلم الوظيفى بدرجة تلميذ قنصلى، ولعلنا نتذكر أسماء بعض الشباب الذين التحقوا بالسلك الدبلوماسى فى بدايته من أمثال محمود فوزى ومحمد عوض القونى، فضلًا عن الذين هبطوا (بالبراشوت الملكى) على بعض المفوضيات المصرية والسفارات بالخارج. ولعلنا نتذكر منهم محمود باشا فخرى الذى كان سفيرًا لمصر فى باريس، وهو صهر الملك فؤاد ومازال بعض الفرنسيين حتى عهد قريب يتذكرون كرمه الزائد وسخاءه المعروف والتمثيل المشرف الذى كان يبديه باسم المملكة المصرية حينذاك، وقد جاءت من بعده شخصيات مصرية فى العاصمة الفرنسية أتذكر منهم عدلى أندراوس.
وقد اشتمل التمثيل الدبلوماسى منذ بدايته على شباب من المسلمين والأقباط تأكيدًا للهوية المصرية المشتركة لهذا الجهاز القومى الذى يعبر عن عراقة مصر وامتداد جذورها، ولقد تلقيت شخصيًا أنا وزملائى ممن التحقوا بالسلك الدبلوماسى فى الستينيات بأستاذين كبيرين فى الدبلوماسية المصرية كانا هما السفير عثمان توفيق الذى تجاوز وقتها سن المعاش بكثير بعد أن أنهى خدمته سفيرًا فى إثيوبيا، وكان تلميذًا مباشرًا لذلك الرعيل الأول من دبلوماسيى عام 1922 – 1923، وكان يدرس لنا أسلوب كتابة المذكرات الدبلوماسية باللغة الإنجليزية، وعلى الجانب الآخر كان هناك السفير عثمان أرناؤوط الذى كان سفيرًا سابقًا فى غينيا وحاصلًا على جائزة الشعر بالفرنسية لدول ما وراء البحار وكان يدرس لنا أسلوب كتابة المذكرات الدبلوماسية باللغة الفرنسية، بينما كان يأتينا فى النادى الدبلوماسى (كلوب محمد علي) خبير رفيع الشأن فى أمور البروتوكول وشئون المراسم وأعنى به السيد جورج رهبة الذى عمل معظم حياته فى العصر الملكى وتشرب بالقواعد الرصينة للبروتوكول المصرى المعروف حتى سنوات قليلة مضت عندما بدأنا نتخلى عن كثير من المراسم والشكليات بدعوى أنها غير عصرية وليست عملية ومنها على سبيل المثال طريقة تقديم السفراء لأوراق اعتمادهم بأعداد كبيرة يتم تجميعها فى يوم واحد مع إغفال الخطبة التقليدية التى كان يلقيها السفير القادم أمام رئيس البلاد.
ولعلنا نتذكر فى هذا المقام الكلمة الشهيرة التى ألقاها أول سفير لسوريا بعد الانفصال وهو الأستاذ سامى الدروبى، والتى كانت مؤثرة للغاية لأنه كان يتحدث من قلبه المفعم بحب عبدالناصر لأن السفير السورى كان مواطنًا فى الجمهورية العربية المتحدة ولم يكن يتخيل أن يقدم أوراق اعتماده لرئيس دولة كان هو أحد مواطنيها ولكنها جريمة الانفصال التى استهدفت المد القومى وضربه فى مقتل، أعود إلى الدبلوماسية المصرية فأقول إننا قد شهدنا أسماء لامعة فى سمائها بدءًا من فوزى والقونى مرورًا بمحمود رياض وإسماعيل فهمى وحافظ إسماعيل وعصمت عبدالمجيد بل وبطرس غالى رغم أنه قادم إليها من موقعه الأكاديمى بالجامعة إلى جانب أسماء أخرى زينت سماء الدبلوماسية من نجوم الأجيال المختلفة أتذكر منهم عمرو موسى، وعبدالرؤوف الريدى، وأحمد صدقى، وأحمد ماهر السيد، ومحمد شاكر وغيرهم من الأسماء اللامعة فى تاريخ الخارجية المصرية. رحم الله من غادر الحياة منهم وأطال عمر الباقين شموعًا تضىء الطريق أمام الأجيال الجديدة.
إننى أكتب اليوم عن الدبلوماسية المصرية بعد مضى قرابة شهرين على عيدها السنوى، فالمرء حين يتذكر مؤسسة مصرية بهذه العراقه فإنه يتذكر معها الأدوار العظيمة التى لعبتها منذ الوزير الوفدى الشهير الدكتور محمد صلاح الدين وصولًا إلى دور المؤسسة الدبلوماسية فى خمسينيات القرن الماضى خصوصًا معركة السويس والأدوار التى لعبتها تلك المؤسسة الوطنية أثناء أحداثها، كذلك أتذكر دور الدبلوماسية المصرية فى تأميم القناة وحرب السويس، ثم الوحدة والانفصال وحرب اليمن ودورها المشهود بعد عام 1967 الذى توجته مصر بانتصار قواتها المسلحة عام 1973 فرفع الجيش المصرى رؤوسنا نحن الدبلوماسيين المصريين وأصبح مركزنا التفاوضى يعلو ويرتفع بعد أن غسل المصريون عار الهزيمة بمياه النصر التى كانت تجرى فى قناة السويس، والجنود المصريون البواسل يعبرونها بعد تحطيم خط بارليف والمعارك الضارية التى جرت شرق القناة. تحية للدبلوماسية المصرية وروادها الأوائل وأجيالها القادمة.
نقلا عن جريدة الاهرام