رياح نكبة 48 تهب على فلسطين المحتلة
أعمدة النيران داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومواجهات الدم والنار في قطاع غزة، تحت مظلة ذكرى النكبة العربية الكبرى (15 مايو / آيار 1948)، ستظل قائمة ومشتعلة، طالما بقيت قصة النكبة قائمة بالاحتلال على التراب الفلسطيني.
يقول المفكر الفرنسي «رجاء جارودي» في كتابه «فلسطين أرض الرسالات السماوية» إن السمتين الرئيسيتين للسياسة الإسرائيلية هما: العنصرية والتوسع، وأن المبدأ الأساسي الذي يربط إحداهما بالآخر، قد صاغه بكل وضوح تيودور هرتزل، الذي كتب يوم 8 أكتوبر/ تشرين أول 1898: سألني الأمير هو هنلوه، مستشار الإمبراطورية الألمانية، عن الأراضي التي ننوي الحصول عليها، هل ستكون إلى الشمال حتى بيروت، أم أبعد من ذلك؟ قلت له: سوف نطلب ما نحتاج إليه، وكلما زاد المهاجرون يجب أن تزيد الأرض.
ومن المصادفات القدرية أن ذكرى «النكبة» في فلسطين، تحل في أيام مشتعلة بالنار والدم بين أصحاب الأرض الشرعيين، وسلطات الاحتلال، لتعيد ذكرى المواجهات حينما كانت رائحة البارود قد بدأت تفوح على ربى فلسطين وتلالها، في محاولة لاختراع دولة للشعب اليهودي.
كيف تم اختراع الشعب اليهودي؟
كشف المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة تل أبيب، عبر كتابه الأشهر «اختراع الشعب اليهودي» أو «متى وكيف اخترع الشعب اليهودي؟»، زيف فكرة الشعب اليهودي، والقومية اليهودية، فهو يؤكد أن «الشعب اليهودي آت من الكتاب المقدس، بمعنى أنه شيء خيالي تم اختراعه بأثر رجعي».
ويقول ساند: أنا مثل بقية الإسرائيليين اعتقدت أن اليهود كانوا شعبا يعيشون في يهودا، وأن الرومان نفوهم عام 70، ولكن عندما بدأت أنظر إلى الأدلة اكتشفت أن النفي هو أسطورة، حيث لم أجد أي كتاب تاريخي يصف أحداث النفي، وأن السبب في ذلك هو كون الرومان لم ينفوا أي شعب من فلسطين، وأن معظم اليهود في فلسطين كانوا فلاحين، أما فكرة الشعب اليهودي، أو القومية اليهودية، التي بنيت على أساسها الصهيونية، وأنشأت دولة إسرائيل، فهي أسطورة اخترعت منذ نحو قرن واحد.
وكان يوم 15 مايو/ آيار 1948 بداية سلسلة متواصلة من المخططات والمؤامرات تتسلق أسوار القدس، باعتبارها رابطة العقد لكل الطرق الممتدة في كل اتجاه على طول الأرض الفلسطينية وعرضها، وفي سجل ذكرى النكبة، تتحمل بريطانيا (وحدها) مسؤولية اغتصاب الجغرافية الفلسطينية، وتأسيس المشروع الصهيوني في قلب العالم العربي..كانت بداية «المؤامرة ـ المأساة» مع التخطيط البريطاني لترتيب أمور الشام والانتقال بسرعة للتركيز على فلسطين، وبالتحديد للعمل على إقامة وطن لليهود فيها، يؤدي دوره المرسوم في الاستراتيجية البريطانية.
مخطط بريطاني يرسم «مستقبل فلسطين»
أثناء الحرب العالمية الأولى طلبت الحكومة البريطانية سنة 1915 من السير هربرت صمويل أن يضع تصورا لما ينبغي أن يكون عليه أمر فلسطين بعد النصر.
وكتب هربرت صمويل بوصفه عضوا في وزارة الحرب ـ إلى جانب كونه يهوديا وصهيونيا أيضا ـ مذكرة بعنوان «مستقبل فلسطين»، تاريخها 5 فبراير/ شباط 1915، توصل فيها إلى نتيجتين: إحداهما: إن الحل الذي يوفر أكبر فرصة للنجاح ولضمان المصالح البريطانية، هو إقامة اتحاد يهودي كبير تحت السيادة البريطانية في فلسطين، وأن فلسطين يجب أن توضع بعد الحرب تحت السيطرة البريطانية، ويستطيع الحكم البريطاني فيها أن يعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية في شراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة والمساعدة على التطور الاقتصادي بحيث يتمكن اليهود من أن يصبحوا أكثرية في البلاد.
مهمة الانتداب البريطاني.. تأسيس المشروع الصهيوني في فلسطين
وأثناء إعداد وثائق مؤتمر السلام في «فرساي» أصرت الحركة الصهيونية على ضرورة أن يحتوي قرار المؤتمر بانتداب بريطانيا على فلسطين إشارة واضحة في مقدمته لـ«وعد بلفور»، تأكيدا إضافيا بأن المهمة الرئيسية للانتداب البريطاني هي العمل على إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين.
ولم يكن في القدس قبل وعد بلفور غير 30.000 يهودي، اندمج معظمهم مع أصحاب الوطن من الفلسطينيين، وتحدثوا لغتهم ومارسوا عاداتهم.
الحركة الصهيونية تعلقت بأذيال الموجة الاستعمارية
ما حدث يؤكد رؤية المفكر المصري الراحل الدكتور جمال حمدان، بأن الحركة الصهيونية تعلقت بأذيال الموجة الاستعمارية لتركبها وتستثمر المناخ السياسي الاستعماري العام وصولا إلى تنفيذ مخططاتها الخاصة بإنشاء الدولة اليهودية، وهي نفس رؤية الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر ـ في كتاب فلسفة الثورة 1954 ـ «بأن إسرائيل، لم تكن إلاّ أثرا من آثار الاستعمار، فلولا أن فلسطين وقعت تحت الانتداب البريطاني، ما استطاعت الصهيونية أن تجد العون على تحقيق فكرة الوطن القومي في فلسطين، ولظلت هذه الفكرة خيالا مجنونا ليس له أي أمل في واقع».
تفاصيل المؤامرة البريطانية
كان حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، والرئيس الإسرائيلي في بداية تأسيس الدولة، أكثر وضوحا في تحديد المواقف والمقاصد، ورسم المشاهد الحية التي جرت ، وأجواء صناعتها ، وراحت كلماته تستكمل صورة للحقيقة تفصيلا بعد تفصيل، في مذكراته التي نشرها في كتاب «التجربة والخطأ».
يقول وايزمان: لقد كان يجب أن تساعدنا دولة كبرى، وكان في العالم دولتان تستطيع كل منهما مساعدتنا: ألمانيا وبريطانيا.. أما ألمانيا فقد آثرت أن تبتعد عن كل تدخل، وأما بريطانيا فقد أحاطتنا بالرعاية والعطف، ولقد حدث في المؤتمر الصهيوني السادس الذي عقدناه في سويسرا، أن وقف هرتزل يعلن يهود الدنيا أن بريطانيا العظمى، وبريطانيا العظمى (وحدها) دون كل دول الأرض، قد اعترفت باليهود كأمة ذات كيان مستقل، منفصلة عن غيرها، وأننا نحن اليهود خليقون بأن يكون لنا وطن، وبأن تكون لنا دولة.
التآمر البريطاني على حقوق الشعب الفلسطيني
كانت الشواهد والوقائع تشير إلى عناصر مساعدة لعبت دورها بالتآمر على حقوق الشعب الفلسطيني، وكان دور سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين في صدارة العناصر والعوامل المساعدة ، ولعبت دورها بتنسيق مواعيد إخلاء معسكراتها مع قوات الهاجاناه (قبل الموعد المحدد لانتهاء الانتداب يوم 14 مايو/ آيار 1948 ) والتي كانت تبادر باحتلال القواعد البريطانية، وقد مكنها ذلك ـ على سبيل المثال ـ من احتلال حيفا في ظرف 24 ساعة.
كان للقوات البريطانية جدول أولويات له توقيتات لافتة للنظر، ذلك أن الجزء المقرر لليهود بمقتضى قرار التقسيم بدأ تسليمه لقوات الهاجاناه مبكرا، ومبكرا جدا في بعض الأحيان، حتى إن القوات البريطانية قامت بتسليم مناطق الجليل ابتداء من شهر مارس/ آذار، وأوائل شهر أبريل/ نيسان، وأما فيما يتعلق بالجزء المخصص للعرب بمقتضى قرار التقسيم، فإن القوات البريطانية كانت تتمسك بالأمر والنهي فيه حتى الدقيقة الأخيرة من سريان موعد انتهاء الانتداب، وصدرت أوامر إلى قيادات المعسكرات البريطانية ببيع «مهمات» لا لزوم لها عند الانسحاب بعد انتهاء الانتداب، وكانت هذه المهمات تباع كلها للجانب اليهودي، وتشمل أسلحة، وذخائر، وجرارات، وعربات نقل، ومهمات متعددة الأغراض.