أحمد الخميسي يكتب: رفاعة الطهطاوي..وثيقة زواج
لو أنك، الآن عام 2023، قلت لرجل صعيدي : اعقد قرانك على زوجتك واكتب لها في العقد أنك إذا خنتها يصبح الزواج بها ملغيا من تلقاء نفسه. قل ذلك للرجل الصعيدي، أو الشرقي عامة، إنه لن يرفض بشدة فحسب بل وقد يقطع علاقته بك على أساس أنك مخرف او مجنون. ومع ذلك فقد قام أحدهم بكتابة مثل ذلك العقد، ومن تلقاء نفسه، منذ نحو مئتي عام حين كان التشدد أقوى، والنظرة إلى المرأة وحقوقها أدنى، وذلك سنة 1840 ! وسجل بخط يده في عقد زواجه بابنة خاله : " التزم كاتب الأحرف رفاعة بدوى رافع لابنة خاله المصونة الحاجة كريمة بنت العلاَّمة الشيخ محمد الفرغلي الأنصاري أن يبقى معها وحدها على الزوجيَّة دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أياَّما كانت وعلَّق عصمتَها على أخذ غيرها من نساء أو تمتع بجارية أخرى.. فاذا تزوَّج بزوجة أياَّ ما كانت تعد بنت خاله بمجرد العقد خالصة بالثلاثة". ولك أن تتخيل فلاحا صعيديا منذ مئتي عام يكتب عقد زواج كهذا! إنه رفاعة رافع الطهطاوي أبو الثقافة المصرية الحديثة كلها الذي توفي عام 1873 في 27 مايو، ولم تنتبه الجهات الثقافية إلى ذكرى رحيله، والذي تظل وثيقة زواجه إشارة إلى معجزة التحرر والتنور حين يتشبع به الانسان من داخله وليس من خارجه، بنفسه كلها وليس بظاهر عقله فحسب. ولتدرك دلالة وثيقة زواج الطهطاوي لابد أن تتخيل أن من سجله فلاح صعيدي اخترع صيغته وكتبه منذ مئتي عام! الطهطاوي الذي رسم آمال الأوطان جميعا بالفكرة التي صاغها حينذاك على النحو التالي: " فليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع"!
منذ مئتي عام أدرك ذلك الفلاح المصري العظيم على أي دعائم تبنى الأوطان وبأي ركائز تتحقق " السعادة المشتركة". في عام 2009 كانت المستشرقة المعروفة فاليريا كيربتشنكو تترجم إلى الروسية كتاب الطهطاوي المعروف : " تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وللقارئ أن يتخيل حجم الصعوبات التي تواجه مترجما حين يعكف على كتاب ممتليء بصياغات وكلمات بعضها مهجور وبعضها غير مفهوم! وكنا نتراسل بالايميل أنا ود. كيربتشنكو لنتبادل الرأي حول تفسير الكلمات، وخطر لي أن أرسل إليها عقد زواج الطهطاوي، وفرحت به للغاية، وقامت بنشر صورة العقد في الكتاب الذي قالت في مقدمته : " إن كتاب تخليص الإبريز كان:" الخطوة المصرية الأولى لانفتاح مصر على أوروبا ".
أما بهاء طاهر في في كتابه " أبناء رفاعه " فيقول عن الطهطاوي: "إن مصر تدين للطهطاوي بأكبر فضل في التغيير الثقافي الذي غير وجه الحياة إذ أرسى مثل الحرية والمساواة والأخوة الوطنية". وقد كانت رحلة رفاعة من طهطا إلي القاهرة ومنها إلي باريس رحلة خروج مصر من الظلام إلي النور معتمدة فقط على حدسها وعزمها وذكاء أبنائها واستشرافهم لحياة العلم والاستنارة والتقدم. وفلاح عظيم ومثقف نادر المثال هو الطهطاوي كان يستحق مهرجانا ثقافيا واسع الأصداء يحتفي بذكراه، لكنه من دون ذلك يبقى علامة باهرة في تاريخ الشعب المصري، وصلب ثقافته وتطوره.