أحمد الخميسي يكتب: زغرودة حلوة لعالم جديد
كنا صغارا حين لمع نجم فؤاد المهندس وأمين الهنيدي وكنا نضحك من قلوبنا مع أي مسرحية لهما في التلفزيون، أما جدي لوالدتي فكان يشيح بوجهه مؤكدا بثقة وازدراء أنه:" لا كوميدي في مصر إلا اسماعيل يس، هو الوحيد الذي يضحكني". وأحيانا نتخذ نحن أبناء الأجيال الماضية الموقف ذاته من أفراح وهموم الأجيال الجديدة، فنعتز بماضينا، وفنونه، وتقاليده، ونعلي من عظمة عبد الحليم، وكارم محمود، وأحلام، ونعجز عن فهم السر في إنصات الأجيال الجديدة لشيرين، وحماقي، وحمو بيكا، وحتى أغنيات المهرجانات الهابطة. لا يسعني بالطبع أن أتذوق أو أتعاطف مع تلك الأغنيات، لكنهم أيضا لا يتذوقون ولا يتعاطفون مع أغنياتنا : حورية حسن وعبد الوهاب ومحمد فوزي. هم في حاضرهم ونحن في معظم الأحيان قابعين في ذكرياتنا. ثمة صلة مقطوعة بيننا. ولعل السر في ذلك أن عالم الأجيال الجديدة يبدأ بينما يتلاشى عالمنا نحن وتتوارى معانيه وأشياؤه وحكمته. إنني أنصت إلى أغنية أحلام الجميلة:" زغرودة حلوة رنت في بيتنا.. لمت حارتنا وبنات حارتنا.. والطبلة دقت في مندرتنا" وأتساءل هل مازالت هناك حارة في مصر بهذا المعنى؟ ومندرة؟ أم أن عالمنا الذي كانت الحارة فيه كائنا واحدا قد اختفى، مثلما اختفت مخرطة الملوخية لمن مازال يذكرها، وزال الغناء في سبوع المولود الجديد: "حلقاتك برجالاتك" التي تعني حلقة في إذن الوليد وأمنية بأن يفرد رجليه ويصبح كبيرا. لم يعد أحد يغني" برجالاتك" بل ولم يعد هناك من يذكرها تقريبا. وحتى أغنية مثل " يا بيت ابويا معزتك في عنيه .. ما شفت منك غير ليالي هنية" اختفت، ولم يعد لها معنى، لأنها كانت مرتبطة بوضع المرأة في ما مضي حين كان لابد لها من حماية إما في بيت والدها أو زوجها. لم يعد لتلك المرأة الملتاعة وجود الآن، بينما كانت في زمن سابق تمثل معظم نساء مصر. وقد كان هناك ما يشبه الموال الشعبي باسم " سارة وابراهيم" وزوجة ابراهيم الثانية التي ما إن أنجبت حتى اشتعلت الغيرة في قلب سارة ضرتها، فطلبت من ابراهيم أن يأخذها : " على الخلوات ويرميها من غير رحمات". لم تعد تلك هي صورة الضرة إذا كان ثمت من مازال قادرا على الزواج بامرأتين. تختفي الأشياء، مثل مخرطة الملوخية، وتبلى المفاهيم الاجتماعية، وتتغير الظروف التي تنهدت فيها ألام الفلاحين في غنوتهم : " ناس بتلبس قفاطين، وناس تشيل على القفا طين، وناس تتغطى بـالبـطاطين ، وناس بتـغـرق لحد البـطاطين". وكنا ونحن أولاد صغار نلعب في الشارع لعبة السبع طوبات التي تنهض واحدة فوق الأخرى، ومعنا كرة نصوب بها على الطوبات من مسافة محددة، أما البنات فكن يلعبن " الحجلة " على أرض مقسمة مربعات. هذه كانت ألعابنا، بينما الأجيال الجديدة تلعب بالموبايل، والكمبيوتر. الأجيال الحالية لم تسمع بشيء عن حياتنا، ونحن نعجز في أحيان كثيرة عن فهم ألعابهم. يتبدل العالم من حولنا، ولا نعود قادرين إلا بمعجزة على ملاحقة العالم الجديد، واولئك الشبان الصغار الذين – كما كنا نحن في زمن ما – لا يؤمنون بالحاضر لكن أملهم في المستقبل، ولا يثقون بالنجوم والفنانين الذين نحبهم، ولا بالكتب التي نقرأها، ولا بما نقوله أو ما نفعله. إن لديهم شيئا آخر، لا نعرفه، سيعربون عنه في اللحظة التي تناسبهم. أما نحن أبناء الأجيال السابقة فإننا محكومون بالوفاء لماضينا، وتاريخنا، وذكرياتنا، وأغنياتنا، لكن علينا في الوقت ذاته أن نكون أكبر من الماضي وأن نطلق زغرودة حلوة للعالم الجديد حتى لو لم يكن عالمنا.