أحمد الخميسي يكتب: الكاتب أمام القاضي
حلت منذ أسبوع الذكرى الخمسون لرحيل المفكر والكاتب والانسان العظيم طه حسين الذي فارقنا في 28 أكتوبر 1973، إلا أن محرقة غزة اختطفت أبصارنا وقلوبنا فلم أكتب في ذكراه. ولا أود هنا أن أستعرض قدر وتأثير المفكر العظيم، فقط أود أن أقول إن وجود طه حسين أجرى الحياة في ضمائر الكثيرين من حوله، من أولئك كان المستشار محمد نور الذي شغل في مارس 1927 منصب رئيس نيابة مصر وسجل قرار النيابة في قضية كتاب" في الشعر الجاهلي" لطه حسين، ثم قرر حفظ الأوراق إداريا، أي تبرئة طه حسين من التهم الموجهة إليه. حينذاك كان النائب العمومي قد تلقى عدة بلاغات تفيد كلها بأن طه حسين تعدى بكتابه على الدين الإسلامي، أولها بتاريخ 30 مايو 1926 من الشيخ خليل حسين الطالب بالقسم العالي بالأزهر يتهم فيه الدكتور طه حسين بأنه ألف كتابا أسماه " في الشعر الجاهلي " ونشره على الجمهور وفي الكتاب طعن صريح في القرآن العظيم حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي إلي آخر ما ذكره في بلاغه، وبتاريخ 5 يونيو 1926 أرسل فضيلة شيخ الجامع الأزهر للنائب العمومي خطابا تضمن تقريرا رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب طه حسين الذي على حد قولهم كذب القرآن صراحة، وطالب فضيلة الشيخ تقديم طه حسين للمحاكمة. وفي 14 سبتمبر سنة 1926تقدم حضرة عبد الحميد البنان أفندي عضو مجلس النواب ببلاغ آخر ذكر فيه أن الأستاذ طه حسين نشر ووزع وعرض للبيع كتابا طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامي . وأجمل محمد بك نور الاتهامات الموجهة ضد طه حسين في أربعة: الأول أنه أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن في إخباره عن إبراهيم واسماعيل، والثاني أنه طعن على النبي (صلعم) من حيث نسبه، والثالث ما تعرض له المؤلف في شأن القراءات السبع المجمع عليها، والرابع أنه أنكر أن للإسلام أولوية في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم. وقد حقق محمد بك نور طويلا مع طه حسين، وجادله، ثم قرر حفظ القضية، أي أنه قرر تبرئة طه حسين. وتتضح أهمية وعظمة موقف محمد بك نور في أنه قرر حفظ القضية ليس لأنه متفق مع ما جاء في كتاب طه حسين، بل رغم اختلافه مع ما جاء في الكتاب! وفي ذلك تحديدا تكمن عظمة ذلك العقل المستنير. ومازالت كل حجج محمد بك نور – التي برأت طه حسين - صالحة كأساس منهجي إلي يومنا هذا . ومثال ذلك أنه يشير في أحد المواضع إلي أنه " لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة ، وإنما الواجب توصلا إلي تقديرها تقديرا صحيحا بحثها حيث هي في موضعها من الكتاب ومناقشتها في السياق الذي وردت فيه"، أماعن التهمة الخاصة بالقراءات السبع فقد اعتبر محمد بك نور أن ما ذكره المؤلف هو" بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين ولا اعتراض لنا عليه". إن قرار محمد بك نور الذي سجله منذ نحو مئة عام يمثل وثيقة قضائية تحتوى على كل الأسس الضرورية لاحترام الرأي الآخر، والطريقة الصحيحة للتعامل مع الفكر والفن والبحث. في في 8 مايو 2005 وقع بصري في جريدة الأهرام على نعي نجل المستشار محمد بك نور الذي برأ طه حسين، و قفزت إلي ذهني حكاية القاضي والكاتب، حين يقف القاضي إلى جوار المتهم ، حين يكون المتهم طه حسين وحرية الفكر.