أحمد الخميسي يكتب: المواهب التي تنكسر على الطريق
أحيانا تؤرقني أسئلة لا علاقة لها بالشأن العام ولا حتى بدوائر الاهتمامات المشتركة، ومن ثم أتردد في الكتابة عنها، ثم أغامر أحيانا بعرض تلك الخواطر، ربما أجد من يقاسمني إياها. من تلك الأسئلة موضوع المواهب العظيمة التي تعلو وترتفع لكنها لا تواصل التحليق، وإذا بها تنكسر، وتنزوي على غصن هزيل، على حين كانت السماوات كلها مفتوحة لها. إحدى تلك المواهب المطرب كمال حسني صاحب الصوت الجميل والوجه المريح الذي لم يكن يعرفه أحد ثم شق طريقه إلى الشهرة عام 1955 بفيلم ربيع الحب مع شادية، وأثبت أن صوته جميل ومعبر، لكنه بعد ذلك الفيلم الوحيد هاجر إلى لندن وظل هناك يشتغل في التجارة ثم عاد الى مصر في التسعينيات وتوفي في أبريل 2005 في صمت تام، ولم يترك سوى أغنيتين مازلنا نسمعهما: غالي عليه، و أغنية لو سلمتك قلبي مع شادية. بدأ من القمة وعمره 29 سنة وانفتحت أمامه كل أبواب الإبداع والتألق على مصراعيها، لكنه انطفأ وابتلعه الظل خمسين عاما كاملة وهو موهوب وذو صوت معبر حساس. نحن على دراية بالقوانين التي تحكم مسيرة الفنانين الناجحين، لكننا لا نعرف شيئا عن الظروف والأسباب التي تخمد النجوم بموجبها، ربما لأن للنجاح قوانين مشتركة أما الفشل فإن لكل حالة قانونها الخاص. أتأسى كثيرا حين أتذكره ، وأحاول أن أتخيل الأسباب التي عاقته، وأن أتخيل شعوره الشخصي بانكسار جناحيه، رغم قدراته المرموقة، وأتذكر ما قاله المتنبي في ذلك الصدد : " لم أر في عيوب الناس عيبا .. كنقص القادرين على التمام" ، أي أن كل أسباب التمام توفرت للموهبة لكنها رغم ذلك تعثرت في منتصف الطريق. إليك مثالا آخر، هل سمعت يوما عن فنانة تدعى مونا فؤاد؟ ظهرت مونا في نحو عشرة أفلام في الخمسينيات، بطلة، ومع ذلك اعتزلت وتوفيت في فنزويلا عام 1993. لماذا لم تواصل التحليق وقد بلغت قمة الجبل؟. المطرب محمد أمين الذي لا يعرفه أحد الآن برز عام 1949 بطلا لفيلم " الستات كده" مع كاميليا، مطربا وممثلا ونجما، ثم انزوى وتبددت الموهبة، لماذا ؟ كيف؟ سؤال مشبع بالحيرة. ولا أظن الكثيرين قد سمعوا باسم " سيلين أكسيلوس "، وهي شاعرة مصرية مواليد 1902، وتوفيت 1992، نشرت ديوانين من الشعر هما : " المصليان" عام 1943، وديوان " خطوات العاج" عام 1952، وكان أخوها الأكبر رينيه شاعرا أيضا لكن الموت اختطفه مبكرا بمرض السل. عاشت سيلين في الاسكندرية، تزوجت لكن زوجها فر بعد ذلك بابنهما الوحيد إلى أمريكا فلم تره إلا بعد خمسة عشر عاما. وأدت صدمة وفاة أخيها ثم اختطاف ابنها إلى اعتزال سيلين المجتمع وكتبت تقول : " لقد أصبحت أكره بشدة هذا العالم البشع"، وتهدمت موهبتها من دون أن تواصل التحليق. هذه النماذج كثيرة للأسف، وكلها تثير الأسى، لأنها كانت تجسيدا للقدرة والعجز معا. ومن الواضح أن الموهبة لكي تتحقق تتطلب ما هو أكثر من الموهبة ذاتها، قد تتطلب الاصرار، والقدرة على تحمل ضربات القدر، والقدرة على العمل الشاق، وأحيانا القدرة على اقامة علاقة ناجحة بالمجتمع. لكن يظل انكسار الأجنحة مؤلما، ويظل لكل انكسار قانونه الخاص. يفتتح ليف تولستوي روايته العظيمة " آنا كارنينا " بالفقرة التالية : " تتشابه كل العائلات السعيدة ، لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة "، ويبدو أن ذلك أيضا يجري على المواهب، إذ تتشابه كل المواهب الناجحة التي واصلت الطريق، لكن لكل موهبة تعسة طريقها الخاص الذي يحرك الأسى والحيرة.