أحمد الخميسي يكتب: الـبـشــر.. أجـمـل هــدايــا الـعـيــد
كل سنة وأنتم طيبون، ومصر بخير. العيد، وفيه تصحو في ذاكرتي عمتي فتحية الخميسي، أول من نفحني جنيها كاملا في العيد عام 1960، وكان الجنيه ثروة ضخمة، ظللت يومين أتدبر فيما أنفقه.وكانت عمتي هذه ممتلئة، لكنها كانت إذا غنت ينقلب صوتها إلى وتر حساس وتغشى الدموع عينيها من التأثر والرقة. كانت الفلوس، والملابس الجديدة هدايا مفرحة، لكن مع التقدم في السن لم تعد النقود والقمصان تبعث الفرح في نفسي، صرت أبحث عن الهدايا في البشر، أولئك الذين يطبطبون على الجراح، ويضمدون الروح بنظرة تقدير وحب وتعاطف. البشر المحبون للآخرين هم أجمل هدايا العيد وهم العيد. أذكر في هذا المضمار الشاعر الراحل عبد القادرحميدة الذي بدأت حياتي الصحفية معه في مجلة الاذاعة والتلفزيون، أذكر تفاؤله المتدفق. كنت أعمل وأنا مازلت طالبا في السنة الثانية ثانوي، وأذهب إلى المجلة بكتب المدرسة حتى لاحظها في يدي فبهت وقال لي:"يا أحمد غلف هذه الكتب ولو بورق جرائد. أنت تراجع مقالات صحفيين عندنا حصلوا على شهادات جامعية ولو عرفوا أنك تلميذ لثاروا وغضبوا". وظلت تربطني به علاقة المحبة حتى النهاية، وكثيرا ما كنت أتذكر في حياته قول شارلي شابلن:" نحن بحاجة إلى الطيبة أشد من حاجتنا إلى العبقرية". في موسكو كان الشاعر العظيم رسول حمزاتوف هدية كل عيد، وهو القائل:" نجوم كثيرة وشمس واحدة.. نساء كثيرات وأم واحدة .. بلاد بلا عدد ووطن واحد". عاتبني مرة لأنني قليل الاتصال به، وحين قلت له معتذرا:" أنت شاعر كبير أستاذ رسول ولا أحب أن اشغل وقتك"، قال لي:" يا أحمد أنا أعطي أصدقائي وقتي المشغول وليس وقتي الفاضي". وطالما كان حمزاتوف حيا كنت أشعر بالطمأنينة وبأن الخير في العالم سيهزم الشر. كان حمزاتوف هدية كل عيد. في مصر تعرفت إلى د. محمد رؤوف حامد، العالم الكبير الذي نال مؤخرا جائزة العمل الصحي الدولي تكريما لدوره العلمي والثقافي، وأحببت رؤوف حامد، فقد وجدت فيه ليس فقط العالم الكبير بل والانسان الذي يفيض بالعذوبة والتواضع، ولعل الجمع بين العلم والعذوبة معجزة. ومازال د. رؤوف حامد هدية إنسانية لكل من تعرف إليه. نحن بحاجة إلى تلك الهدايا، إلى تلك النبرة التي تطبطب على الروح بمحبة، لأننا نمضي في حياتنا ونظهر خلال ذلك أننا متماسكون أشداء من دون أن يدري أحد أي جهد نبذله لنبدو أشداء بينما ندوس على جراحنا. البشر الذين يحسنون تضميد الروح هم أجمل هدايا العيد، أو هم العيد نفسه. أذكر الصديق العزيز د. أبو بكر يوسف وكنت أمر بأزمة طاحنة في موسكو، وحين حكيت له عما بي، وضع يده على كتفي ولزم الصمت. وكان صمته أبلغ من أي كلام. كان عيدا. أذكر عمي الغالي محمود السعدني، وكنت قد عدت من روسيا الى مصر لتوي ولم يكن لدي الجميع سوى سؤال واحد يوجهونه إلي:" كيف انهار الاتحاد السوفيتي؟"، أما عم محمود فقد سألني سؤالا واحدا آخر:" أنت بتأكل منين؟"، ثم سعى ليجد لي عملا. في العيد أستعيد أصوات ووجوه وقلوب كل الذين كانوا في حياتي هدايا لا تقدر بثمن، كل من أقام في روحي خيمة محبة، وعلق المصابيح الملونة، واستدعى للمحبة أعظم المنشدين والموسيقيين.
ابحثوا عن البشر، هداياكم في العيد، فتشوا عنهم في النظرات، والنبرات، والكلمات، وفي الصمت المتفهم. أنتم هدايا الناس، والناس هداياكم. كل عيد وأنتم طيبون.