رضا نايل يكتب : شيء ما يبقى
استيقظت وكأن ما حدث أمس قد حدث منذ زمن بعيد جدًا، وأهالت عليه ذاكرتي التراب منذ دهر، وكنت ألتقط أنفاسي بصعوبة وكأني أتنفس من سَمِّ الْخِيَاطِ والسأم يملأ قلبي، وأفكار مُزعجة تتأرجح برأسي كبندول الساعة، فقد ومض ما حدث أمس في ذهني كالبرق مُيقظًا قلق واضطراب الأمس، فها هما يتدفقان من أعماقي نحو السطح باحثين عن مخرج عبر تلك الدموع المصلوبة في عيني فلا هي جفت، ولا هي سقطت، فداخلي شيء ما كنت أجهل كنهه يفيض بألم لا ينضب، أدركت أمس فقط أنه الشوق والحنين في تلك اللحظة التي رأيتها فيها، حيث توالد ذلك الارتباك الذي يجعل من كل سنوات البعد آيلة للسقوط، حتى وإن سقطت سيبقى حطامها حاجزًا بيننا..
فقد خفضت رأسي في حزن بارد لأنني لن أجد مبررًا لهذا الاهتمام الذي يملأ نظراتي لها، لو سألني ذلك الممسك بيدها وبيده الأخرى يحمل طفلاً صغيرا، فظللت مُسمرًا مكاني وظلال الناس تزداد حولي حتى أغرقتني، ووجدتني بشكل آلي أمامها في عربة المترو وأنا لم أكن قد استجمعت أفكاري التي لازالت تزعجني، فحاولت بكل قواي مقاومة ضعفي لأقتصد في النظر إليها، فنصف ابتسامة شاحبة تحاول جاهدة الوصول إلى شفتيها، وعيناها السوداوان قد بهت لونهما، ووجهها كان فارغًا من أي شئ حتى لم يعد بوسعي أن أراها وصورتها تنعكس في عيني، فنظراتها البليدة الباردة تنكر كل شيء حتى ظلي المُنعكس إلى جوارها، فقد كنت أمام تمثال.. أشعر بأنفاسه الحارة تلفح وجهي وكأنها تتصاعد من مرجل يغلى فبعضها كان نارًا، وبعضها كان ثلجا.
فأسفت من أجلها ودعوت الله أن يمحو كل صدفة سوف تجمع بيننا مسطورة عنده أم الكتاب، فهي لا تذكرني إلا حين تنساني، وستبقى داخلي شيئا ما مستترا يرفض أن يتلاشى سوف يظل سبب عذابي وشقائي..
فقلت في نفسي يجب أن أنزل في المحطة المقبلة حتى لا أعرف وجهتها، وعندما هممت بالنزول متخذا أولى خطواتي نحو النسيان سمعت اسمي، فالتفت فإذا بها تنادي طفلها الصغير.