أحمد الخميسي يكتب: التكنولوجيا .. من الصداقة إلى العداوة
عام 1980 كنت جالسا مع والدي إلى مائدة الطعام في موسكو، وعن له أن يكلم صديقا فراح يدير قرص التليفون. في حينه لم نكن نعرف سوى التليفون الأرضي. وضع السماعة على أذنه وبعد قليل وجدت ملامحه تنقلب إلى التعجب فالدهشة الشديدة. أطبق السماعة على الجهاز ملتفتا نحوي يقول بذهول:"حاجة غريبة جدا!! رد علي صوت معدني يقول فلان غير موجود الآن. اترك له رسالة"! وسألني بحيرة عميقة :" إيه ده ياابني؟!". احترت بدوري ولكني لم أهتد إلى جواب، فظل يمصمص شفتيه مرتبكا ثم كأنما أدرك الأمر فقال بنظرة مكر كثيفة : "جهاز تجسس؟" !أغرقت في الضحك وقلت له : "جهاز تجسس إيه بس اللي ح يقول لك اترك رسالة؟!". زام وصاح : "عندك حق. طيب إمال ده إيه بس؟!". في تلك السنوات لم يصل خيالي ولا خياله إلى أن ذلك ببساطة جهاز" الرد الآلي" ( آنسر ماشين) الذي لم يسبق لنا أن سمعنا به أو رأيناه، وكان ظهوره يشبه المعجزة، مثلما حدث مع الفيديو من قبل، وفيس بوك والمحمول لاحقا. ولم يكن " جهاز الرد الآلي" وغيره سوى حلقة من تطور " الفونوجراف" الذي اخترعه توماس أديسون في 16 يونيو 1888، واشتق اسمه من كلمتي " فونو" أي صوت، وجراف أي كتابة أو تسجيل، ومنذ ذلك الحين قطع العلم رحلة طويلة في كل المجالات بدون استثناء، الفضاء والطب والاتصالات وعلوم الوراثة وغيرها وصولا إلى الذكاء الاصطناعي. وقد شاهدت من فترة بسيطة فيديو يتحدث فيه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بصوت توفيق عكاشة، حيث يستحيل التمييز بين ترامب وعكاشة! مما يفتح الأبواب على مصراعيها لمخاوف لا تحد من استخدام العلم ضد الانسان في تلفيق جرائم أو تشويه سمعته وغير ذلك، مما ينذر بأن الانسان لم يعد يسيطر على الوحش الذي أطلقه، وأن الصداقة التي كانت بين الانسان والعلوم تكاد أن تنقلب إلى عداوة. وقد برزت تلك المخاوف مبكرا مع صعود العلوم التطبيقية في القرن الثامن عشر، وحينذاك، وتحديدا عام 1818 كتبت ماري شيلي روايتها الشهيرة " فرانكشتاين"، ونشرت في البداية من دون ذكر اسم المؤلفة التي لم يكن عمرها يتجاوز العشرين، ثم باسمها لاحقا. وتدور القصة حول رجل يخلق وحشا دميما ثم لا يستطيع السيطرة عليه، فينطلق الوحش في عمليات قتل وترويع، وانقلب الأمر على المخترع. وكانت الرواية الانجليزية أول تحذير مبكر من خروج قطار العلم عن السيطرة، وربما لذلك السبب تحولت الرواية إلى أكثر من مئة وسبعين عملا سينمائيا غير العروض المسرحية وغيرها، لأنها بشكل أو بآخر نبهت إلى أن العلماء قد يشبهون فرانكشتاين في طموحهم لاستجلاء المجهول واختراقه، إلى أن تمكنوا من اكتشاف الذرة ثم تفجير نواة الذرة واختراع القنبلة الذرية التي أبادت الالاف في هيروشيما ونكازاكي. لهذا قال الزعيم الانجليزي تشرشل ذات مرة:" أخشى أن يكون فناء الأرض على أجنحة العلم المتطور اللامعة". وتتسع مساحات الخوف من الذكاء الاصطناعي الذي كان " جون مكارثي" أول من بدأ يكتشفه في خمسينيات القرن الماضي، ثم تطور وحقق قفزات هائلة. ويقول البعض إن لذلك الذكاء ضوابط أخلاقية تتضمنها البرامج المودعة في الجهاز، لكن المشكلة ليست في الجهاز، المشكلة في من يتحكمون بالأجهزة ، وكما أن البعض يضعون الضوابط، فإن بوسعهم أن يمسحوا تلك القواعد وأن يستخدموا الذكاء الاصطناعي في أي شيء. لقد قمنا بإطلاق الوحش، وربما لم يعد بوسعنا السيطرة عليه، أو إعادته إلى داخل القمقم.