مارتينا مدحت تكتب : ”شيء حقيقي”
أعود لغرفتي فى نهاية كل يوم وأستطرد فى التفكير فيما حدث وشعوري تجاه نفسي وتجاه الموجودات، أفكر فى الغد وكيف سأستعد لبدئه، وأتساءل كيف سيقابلنى هذا الغد، أبوجه شاحب مثل اليوم، أم ستنكسر القاعدة ويصبح أخف حدة على قدرة احتمالي؟، ثم أحسب الساعات التى سأنامها وأيا كان عددها حتى، وإن كان لا يكفى للراحة، ربما هو أفضل حتى يتوقف هذا الرأس اللعين عن التفكير.
كنت كأي شخص طبيعى يحاول أن يتجنب الخيبات، ويعيش يومه فى هدوء بدون منغصات داخلية تفرضه عليه ضوضاء أفكاره، أو خارجية تفرضه عليه الناس وقلوبهم المتحجرة، ومشاعرهم المتبلدة، ونظراتهم الثاقبة، التى تقتحم خصوصيتك دون أي وجه حق، كانت الأيام الثقيلة تتوالى أكثر من غيرها، وأنا مستسلمة وأنتظر مرورها من فوقى كشخص التصق بالأرض من شدة الزحام، حتى أصبح لا يقوى على الحراك، واعتاد أن تدهسه المارة دون فكاك منهم، ودون قدرة منه على الانتصاب.
توالي الأيام السيئة كان يقتنص بحرفية كبرى كل محاولات القدرة على تصديق أن الأمور الجيدة ستحدث، وكل القدرة على التشبث بأشتات الأمل، بالرغم من ذلك كان يوجد يقين فى إمكانية حدوث أشياء جيدة، على كل حال لست بهذا القدر من السوء التى تجعلني أعاني للنهاية معاناة "سيزيف".
دائما كان بداخلي يقين أن كل القرارات التى اتخذتها بقلب متسع ومتسامح كانت دائما الأفضل والأنقى، إنني أعاني من الكثير، عانيت من الكثير وسأعاني من الكثير، وأن هذه المعاناة وهذا الألم جزء لا يتجزأ من تجربة الوجود، ولكن فى النهاية هم "جزء" ولا يمكن محو الأجزاء الأخرى، وإن كان يخيل لى أن أثر هؤلاء يفوق كل شيء آخر، وأن كل مُر سيمُر وستتلاشى العديد من التفاصيل بسوئها وحسنها ولن يبقى سوى ما شعرت به، فقط ما شعرت به وجعلت الآخرين يشعرون به أيضا، وإن حدث وكان هذا الشعور سيئا، سيئا للغاية، سأظل أتذكر من تسبب به، وربما سأفتقد هذا الشخص حين لا يعود موجودا حينها.
ليس حبًا فى السادية وجلدًا للذات، لكن هناك رابطا لا يمكن وصفه بيننا نحن كبشر، ربما هو سر إنسانيتنا ورباط كمالنا، هو ما يجعلنا غافرين، متعاطفين، مُحتويين لكل الإساءات، مُحتملين بعضنا بعضا، رابط بين الأحياء وبين من انتقلوا وسبقونا، أعتقد أن هذا الرابط هو من يستحدث المحبة من العدم، فهنالك دوما محبة رابضة وراء كل الأشياء، فالمحبة لا تسقط أبدا.
هذا العالم المزيف زيفًا متقنًا يطوى أكثر من الزيف، هذا الزيف المتقن لا يتخفى وراءه غير شيء حقيقى، شيء يحمل بباطنه جزءًا من الكمال، العبثية المتربصة من جميع الجهات، والشر غير المبرر، والأوغاد الذين يتركون فجوات إثر غيابهم مع عدم وجود أسباب كافية واضحة لهذا الغياب، وكل تلك الأحداث غير المفهومة والتي لا تولِّد سوى المزيد من الحنق والأسى، جميعها يحمل بباطنه شيئا حقيقيا، ربما لا يمكن صياغته بالكلم، ولكن لا يمكن للقلب أن يغفل عن أثر هذا الشيء..