كرم جبر يكتب: ليبيا وذكريات «الفندق الكبير»
أتذكر جيداً زيارة قمت بها إلى ليبيا فى أبريل 1992، على متن آخر طائرة أقلعت من مطار القاهرة، قبل فرض الحصار الجوى بسبب حادث لوكيربى، الذى أسفر عن 270 ضحية.
كنا طابورا طويلا أمام سلم الطائرة، وفجأة أغلق الطيار البولندى الأبواب، بينما يصيح بقية الركاب « استنى « حتى يتوقف، لكنه طار ولم يستجب.
كانت الساعة 9 مساء، والحظر بعد 3 ساعات هى زمن المسافة إلى طرابلس، ومن بين سعداء الحظ الذين لحقوا معى الطائرة الفريق محمد فوزى وسامى شرف وأحمد حمروش والفنان حمدى أحمد وعبد الله إمام، وغيرهم من الشخصيات العامة، الذين ذهبوا لإعلان تضامنهم.
بعد يومين ذهبنا إلى القاعة الخضراء فى طرابلس، للاستماع إلى كلمة الرجل الثانى عبد السلام جلود، وكان يتحدث وينتقل من موضوع إلى موضوع بلا ترتيب.
كان يقول مثلاً «الغارة على بيت العقيد نهاية ريجان الجبان» ثم فجأة : «القوى الناصرية الإسلامية هى الضمير الثورى للتخلص من الحكومات الإمبريالية»، وكان جلود يتبنى نظرية التحالف بين الناصريين والإسلاميين، ظنا منه إنهما القوى الفاعلة، القادرة على تحريك ما اسماه الثورة فى الشارع العربي.
أثناء إلقاء جلود لكلمته، انفتحت الأبواب الجانبية، ودخل مهرولين بقية الركاب الذين لم يلحقوا الطائرة فى مطار القاهرة، بالجلاليب البيضاء المتسخة، ولم يحلقوا ذقونهم، ويبدو عليهم الإرهاق الشديد. وتوقف جلود عن الخطابة للترحيب بهم ووصفهم بشركاء النضال.
جاءوا بالباصات من القاهرة إلى طبرق وباتوا ليلة فى فندق المسيرة، ثم إلى طرابلس بطائرة داخلية، واستغرقت الرحلة كلها 48 ساعة.
زرت ليبيا بعد ذلك عدة مرات، وكانت الإقامة فى الفندق الكبير، الذى تغير اسمه من « جراند أوتيل « وأمر القذافى بتعريب كل شىء، البيسى أصبح الكوثر، وحارب كوكاكولا ومنتجات ما كان يعتبره الدول الاستعمارية.
كانت الإقامة فى الفندق بالبونات، وكل ضيف يتسلم دفترا للطعام والشراب، وخارج الفندق الكبير الذى يقع فى قلب الساحة الخضراء، على البحر مباشرة، يتزاحم عشرات الآلاف من المهاجرين، خصوصا البشرة السوداء يفترشون الأرصفة والميادين بحثا عن عمل.
استمر الحصار على ليبيا 10 سنوات كاملة، وانفرجت الأزمة بعد تسليم المتهمين عن إسقاط لوكيربى، وهما المقراحى وفحيمة، وقررت المحكمة الدولية حبس الأول مدى الحياة، ثم افرج عنه بعد اصابته بسرطان البروستاتا، وتبرئة الثاني.
كانت انفراجة مؤقتة، بعد ان دفع القذافى تعويضات كبيرة، ولكن قرر الغرب من ساعتها وضع ليبيا فى صدارة قائمة الدول المستهدفة، وتأخر تنفيذ القرار بعض السنوات للتخلص أولا من صدام العراق وطالبان أفغانستان، ولم تنفع محاولات القذافى التصالح مع أمريكا والغرب وإعادة رسم العلاقات من جديد.
>>>
ليبيا الآن على موائد اللئام، وأخطرهم بلطجى أنقرة الحالم بخلافته البائسة، التى أذاقت دول وشعوب المنطقة الذل الممزوج بالمؤامرات، وهى السمة المميزة فى السياسة والثقافة التركية.
تركيا تسعى لتمزيق ليبيا وتسلح ميليشيات السراج، سعيا لاستمرار الحرب ونزيف الدماء ونهب ثرواتها ويتم ضبط كميات كبيرة من الأسلحة التى ترسلها انقرة ومعظمها مصنوعة فى إسرائيل، ويعلم اردوغان ان غزوته هى المسمار الاخير فى نعش احلامه.
حصار وحروب وميليشيات وقتل وتنظيمات دينية، وتحول البلد الجميل الذى يتبوأ أجمل المناطق على المتوسط، إلى مستنقع للذئاب.. والليبيون ينتظرون يوم الخلاص.
نقلا عن اخبار اليوم