أحمد الخميسي يكتب: قصة انقضى عليها مئة عام
كثيرا ما يبدو أن قراءة قصة مضى على ظهورها مئة عام أمر قليل الجدوى، غير شيق، لأنها من زمن ولى وغرب، وتطرح قضايا لم يعد لها مكان في حياتنا. لكن الأمر يتوقف على كيفية قراءة ما مضى، وعلى بحثنا عما يمكن أن نستخلصه من ذلك. انظر مثلا قصة" ثريا" لعيسى عبيد أحد رواد القصة القصيرة والتي ضمتها مجموعته" ثريا" عام 1922. مر على كتابة هذه القصة مئة عام بالتمام، ومع ذلك فإن قراءة العمل بتمعن ستمنحنا الكثير. ولننظر في موضوع القصة أولا، إنها تعالج قضية زواج المسلم من مسيحية حين ترتبط ثريا بمحمد، ومشكلة أن ثريا في حالة الطلاق" لا تجسر على الاندماج ثانية في عنصرها الأصلي ( يقصد الأقباط) ولا يقدم أحد من هذا العنصر على الزواج منها". إذن أول ما نضع يدنا عليه أن مشاكل هذا النوع من العشق والزواج كانت تؤرق الناس منذ مئة عام. في الوقت ذاته يصف الكاتب النساء على شاطئ الإسكندرية بقوله إنهن:"كن يسرن على الشاطئ بلباسهن البحري وهو يهبط إلى ما فوق الركبة بكثير تاركا نصف الفخذين والساقيين عاريين"! هذا منذ مئة عام! ويكتب ص 58 أن الفتيات كن:" عاريات لا يسترهن أحيانا إلا فوطة الحمام، يرتدين لباسهن أو ينظمن شعورهن بكل سكون وعدم مبالاة تحت أنظار الشباب". ولا تثير تلك الوقائع دهشة الكاتب وهو يصفها ولا استنكاره، بل إنها ترد في النص بصفتها أمرا مألوفا لا يستحق التوقف عنده. كان ذلك عام 1922. تستوقفنا تلك الحقيقة لنسأل أنفسنا: وماذا جرى للمصريين؟ أوعلى المصريين بحيث تنقلب الأوضاع تماما وتصبح المرأة عند البعض مجرد عورة لابد من تغطيتها؟! تدهشنا القصص المبكرة التي انقضى عليها مئة عام حين تكشف لنا أين كنا منذ مئة عام، وأين أصبحنا.
أيضا تثير القصة قضايا لغوية لا تقل أهمية، إذ تكشف لنا عن كلمات مازلنا نستخدمها إلى الآن مثل كلمة " بقف" أي ثقيل الظل سمج، وترد عند الكاتب حين تقول ثريا:" أشكرك أنك خلصتني من البقف الثقيل ده"! وهي الكلمة التي مازلنا نستخدمها إلى الآن. ويكتب عيسى عبيد ص 79 على لسان بطلته:" فشر .. ده مستحيل". وهكذا فإننا في تلك اللغة نجد الصلة التي تربطنا بماضينا الثقافي، والاجتماعي، والتاريخي. في الوقت ذاته سنجد كلمات أجنبية استخدمها المؤلف لم نعد نعرف معناها، مثل قوله:"وقد كلفته السيدة أن يعمل لها" لافامانو" فأنجز الشاب طلبها ورفض تناول أجرة على عمله". ولكن ما معنى كلمة " لافامانو" هذه؟ لابد أنها كلمة كانت شائعة حينذاك، لكنك لا تستطيع الان أن تعرف أو تفهم معناها، ولن تجد لها تفسيرا لها في أي مكان. وهذا بحد ذاته درس في عدم استخدام كلمات أجنبية قد تمسي مع الوقت غير مفهومة نهائيا!
أخيرا ترد في القصة اشارة الى فهم قديم متجذر يرى السياسة بصفتها نوعا من الاحتيال، وذلك حين تقول بطلة القصة:" عملت لي البوليتيكا التي تعملها لمعارف عمتي"، أي انها راحت تحتال وتنصب.
اخيرا قد تجدر الاشارة إلى أن المقدمة التي وضعها المؤلف لمجموعته القصصية تشي بالمرارة من تجاهل الأدب والأدباء ودور الفن والثقافة، وكان ذلك منذ مئة عام.